تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)
قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: ١٣].
فالله بيده الخلق، وبيده الجنة والنار، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فهو القادر على كل شيء، قد أرسل رسله، وخلق لكل إنسان عقلاً، ليميز به، ويكتسب به، ويختار ما يشاء، فجاءت رسل الله من البشر، فبلغوا عن ربهم كتبه، وبلغوا رسالاته، وعلموا الناس الأوامر والنواهي، وأخبروهم بقصص الأنبياء، ليتخذوا منها العبر، فأضاعوا كل ذلك، واستهتروا بكل ذلك، وكانوا يهزءون من الأنبياء ومن خلفاء الأنبياء من العلماء ومن الصالحين المؤمنين، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: ١٣]، ولكن هؤلاء أعطيناهم عقولا، فلم يفكروا، ولم يعقلوا، فكان كسبهم كسب الكافر، وكسب الضال، وكسب أهل النار، ولو شئنا لأجبرناهم، ولكن الله لا يجبرهم، بل جعلهم يكتسبون ما شاءوه، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠]، وذاك في سابق علمه وقدره في اللوح المحفوظ، ولذلك كانت عقيدة أهل السنة والجماعة أن الهداية وسط بين قول الجبرية بأن العبد مسير، وقول المعتزلة بأن العبد يخلق أفعاله، فالأفعال يخلقها الله، والإجبار غير قائم، فنحن نحس ونحن في دار الدنيا بأننا إذا شئنا الصيام صمنا، وإذا شئنا أن نفطر أفطرنا، فالكافرون شاءوا الإفطار فأفطروا، وشاءوا الكفر فكفروا، فمن شاء الكفر قد كفر، ومن شاء الإيمان آمن، وهذه الإرادة خلقها الله لنا.
وعلى أساسها كان الحساب والعقاب، وكانت الجنة والنار، فلنا ضمن الإرادة الإلهية والمشيئة الإلهية كسب نختاره، ونعمل بمقتضاه.
ومن هنا كان العقاب وكان الحساب وكان النعيم على الأعمال، فلأجل أعمال المؤمنين دخلوا الجنة، ولأجل (لا إله إلا الله) التي قالوها وأيقنوا بها خرجوا من الكفر إلى الإيمان، وأولئك الذين أشركوا مع الله من أجل شركهم وكفرهم خرجوا من الفطرة من الإيمان إلى الكفر والشرك.
فلسنا نخلق أفعالنا، ولسنا مجبرين، بل هناك مشيئة وهناك كسب.
فمن قال بقول الجبرية هلك، ومن قال بخلق الأفعال كاد يشرك، لأنه جعل مع الله من يخلق ومن ينشئ ومن يوجد، والله الخالق لكل شيء، وهو النافع والضار جل جلاله.
ولقد قال الله لنا في خلق الإنسان ونشأته: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ [السجدة: ٩]، فخلق لنا عقولاً وأسماعاً وأبصاراً لنميز بين الحق والباطل، وبين الغث والسمين، وبين الكفر والإيمان، وإلا فلم خلقت العقول؟! إنها لم تخلق إلا للتمييز، فمن ميز الحق كان من أهله، ومن أبى إلا الباطل كان من أهله.