تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود)
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: ٩].
ابتداء من هذه الآية ندخل في قصة غزوة الأحزاب، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله: اذكر نعمة الله عليك إذ غزتكم جنود في عقر داركم، ونصركم الله عليهم بالصبر، ونصركم الله عليهم بريح زعزعتهم، وقلعت أوتادهم، وأكفأت قدورهم وتركتهم يفرون خوفاً وهلعاً، وكفى الله المؤمنين القتال.
وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) بصيراً بأعمالكم، وبصيراً بما استقبلتم به هؤلاء الجنود.
وهؤلاء الجنود هم من تحزبوا على المسلمين من كل جانب، وهم قريش جاءوا في عشرة آلاف محارب، وأهل نجد وغطفان، وكذلك اليهود الذين غدروا ونقضوا العهد والميثاق الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأحزاب من قريش بقيادة أبي سفيان بن حرب، ومن نجد بقيادة عيينة بن حصن الفزاري النجدي، ومن يهود المدينة بقيادة كعب بن أسد القرظي وحيي بن أخطب النضري.
واليهود من بني قريظة ومن بني النضير ممن جاوروا النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، وعاهدهم، ليختبر ما عندهم، ولكن اليهود هم اليهود سواء في تاريخهم القديم أو الحديث هم أهل غدر وخيانة وكذب، وعدم وفاء بالعهد، فقد ذهبوا إلى مكة يؤلبون قريشاً على النبي عليه الصلاة والسلام، وذهبوا إلى نجد يؤلبون غطفان على النبي عليه الصلاة والسلام، ويعدونهم النصر والحلف، وأنهم سيحاربون النبي ﷺ من خلفه ويغدرون به، وستكون الحرب من أمام ومن خلف ومن فوق ومن أسفل، وأخذوا يدعونهم ويحرضونهم ويهونون لهم أمر حرب النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أن استفزوهم واستثاروا أحقادهم، ونقلوا إليهم ما بينهم من عداوات سابقة، فقررت قريش وغطفان غزو النبي عليه الصلاة والسلام في عقر داره داخل المدينة المنورة.
ولم يكن إذ ذاك الجيش النبوي يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، على مبادرة هؤلاء الذين جاءوا غزاة إلى عقر الأرض النبوية والوطن الإسلامي، وجاءوا من مسافة خمسمائة أو أربعمائة ميل.
وبلغ الأمر النبي عليه الصلاة والسلام كما بلغ المؤمنين، وإذا بهم في حالة من الرعب والخوف، خاصة أن من يساكنهم كفار ووثنيون وأهل كتاب ومخادعون وغدارون ومنافقون ممن ادعوا الإسلام من الأوس والخزرج، فجمع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه المؤمنين وشاورهم فقال: ماذا ترون معاشر المؤمنين، هؤلاء قد تألبوا وتحزبوا وهم في الطريق إليكم، وهم كثرة كثيرة بالنسبة لكم، فالمواجهة لا تنكي، فما عندكم من رأي؟ فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! كنا بفارس إذا هوجمنا وكان المهاجمون أكثر عدداً منا كنا نحفر خندقاً نتحصن خلفه.
فأعجبت النبي ﷺ الفكرة وأمر بها، وقام المهاجرون والأنصار والنبي ﷺ على رأسهم يحفرون الخندق من أمامهم من جهة مكة، وكذلك من جهة نجد، وتركوا الجهة التي فيها الجبال أحد وسلع، وجاءوا من أمكنتهم التي هي مفتوحة فحفروا فيها خندقاً، وحوطوا المدينة من ثلاث جهات، على أنهم توقعوا أن يأتي المكيون من جهة المغرب، ويأتي النجديون من جهة المشرق، فخندقوا المغرب والمشرق معاً، وانتظروا مجيء العدو، وعمقوا الخندق بحيث لا يمكن القفز عليه أو النزول إليه، ولو نزلوا إليه لكان موضع نبال المسلمين، وموضع قتالهم وغلبتهم.
فأخذ ﷺ يحفر الخندق بنفسه، كما هي عادته معهم في أن يعمل عملهم ولا يدعهم يقومون بشيء دونه، إلى أن واجهتهم صخرة صعب عليهم كسرها وزوالها فأخبروا النبي ﷺ بها، (فأخذ النبي ﷺ المعول بيده الشريفة وضربها ضربة ذاكراً الله ومستعيناً به، فطار ثلثها، وقال عليه الصلاة والسلام: فتحت بلاد الشام، إني لأرى قصورها، فضرب الثانية فكسر الثلث الثاني من الصخرة إلى أن أضاءت، فقال عليه الصلاة والسلام: فتحت لي فارس، ورأيت قصرها الأبيض، ثم ضربها الثالثة فقال عليه الصلاة والسلام: فتحت لي اليمن ورأيت دورها كأنها أنياب الكلاب).
ويأتي النبي عليه الصلاة والسلام من يخبره أن اليهود من بني قريظة غدروا وخانوا، وتحالفوا مع كفار قريش وغطفان على قتال النبي عليه الصلاة والسلام من خلفه.
وهذه الغزوة لها ثلاثة أسماء سميت بـ (غزوة الأحزاب) لتحزب أهل مكة من قريش مع قبائل نجد وغطفان ويهود المدينة من بني قريظة لحرب رسول الله ﷺ من خلفه، فكانوا من فوقه ومن أسفل منه.
وقد أرسل النبي عليه الصلاة والسلام من يتأكد له من غدر اليهود وقال له: إذا رأيتهم غدروا كما بلغنا عنهم فعرض لي ولا تصرح، حتى لا يفت الخبر في عضد المؤمنين.
وقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام النساء والأطفال والشيوخ العجزة في الآطام والحصون، وجعل لهم حراسة خفيفة، فلو بلغ المؤمنين أن العدو خلفهم يريد أولادهم ونساءهم وشيوخهم لفت ذلك في عضدهم، ولانزعجوا انزعاجاً كبيراً، فوق ما هم فيه من انزعاج، كما وصف القرآن الكريم.
فيأتي من أرسله النبي ﷺ ليتأكد من نقض يهود بني قريظة للعهود ويقول: (يا رسول الله! عضل والقارة) يعني: أنهم غدروا كما غدر أهل عضل وأهل القارة بـ خبيب ومن كانوا معه، حيث عاهدوهم على الأمان إلى أن صدقوهم وإذا بهم يغدرونهم ويقتلونهم، فشبه الغدر من هؤلاء اليهود بغدر عضل والقارة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبشروا أيها المسلمون بنصر من الله)، أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
استشار النبي ﷺ المؤمنين قبل غزوة الأحزاب، وهذا من عادته، وذلك الأدب الذي أدبه عليه الله جل جلاله، فقال له: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، وأثنى على المؤمنين وقال: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ٣٨] وكان يكثر أن يستشيرهم ﷺ في الحروب والغزوات، وفي المعاملات، وفيما يتعلق بأرزاقهم وغير ذلك.
وكان الخندق قد اتسع عرضه وحصلت عنده مناوشات استشهد فيها بعض أفراد من جند المسلمين، وقتل فيه عمرو بن عبد ود من قريش حين قفز من فوق الخندق وأثار الرعب بين أوساط المسلمين، فيقف أمامه علي رضي الله عنه، وبيده السيف والترس وناداه: يا عمرو تقدم وبارز، قال: لا حاجة لي بقتلك يا ابن أخي، قال: أما أنا فوالله إني لفي حاجة شديدة إلى قتلك.
وإذا بـ عمرو تنتفخ أوداجه وتأخذه العزة بالإثم، ويتقدم إليه ضرباً من هنا وضرباً من هنا، وإذا بـ علي بطل الصحابة يجندله تحت قدميه، ويطعنه طعنة كان فيها هلاكه، مما جعل الآخرين خافوا أن يقفزوا، ومع ذلك تقدم ثلاثة أو أكثر وإذا بهم يقعون داخل الخندق فقتلوا، وأخذت خيولهم وسلاحهم غنيمة للمجاهدين من المسلمين.