تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا)
قال الله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: ١٨].
(قد) في لغة العرب إذا دخلت على المضارع تكون للاحتمال والتوقع، وتكون للتقليل، فإذا دخلت على الماضي تكون للتحقيق، وقد تخالف القاعدة العامة، فتدخل على المضارع فتكون للتحقيق، كما في هذه الآية الكريمة: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ).
والمعنى: أن الله جل جلاله يعلم كل شيء، وهو مطلع على كل شيء، ولا يحول بين علمه وقدرته شيء، وقد هنا دخلت على المضارع، وهي للتحقيق في العلم، لا للتقليل ولا للظن، وهذا من القلة في كلام العرب.
فقوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ [الأحزاب: ١٨].
يقال: عوق فلان فلاناً، أي: وقف في وجهه وثبطه على ترك عمل من الأعمال.
فهؤلاء المنافقون حاولوا أن يعوقوا المؤمنين عن الحرب والقتال، وقد قص الله علينا في الآية السابقة خبرهم فقال: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ [الأحزاب: ١٣]، فهم حاولوا أن يعوقوا المؤمنين عن البقاء في المعركة، فهؤلاء المعوقون المنفرون يحولون بين الناس وبين الجهاد، وبين بذل أنفسهم رخيصة في سبيل الله، فالله يعلم حالهم، ويعلم مقاصدهم.
وهذا إعلان من الله جل جلاله بتهديدهم وتخويفهم وتوعدهم بالعذاب الشديد والخلود في النيران إن بقوا على نفاقهم، أما إن تابوا وأنابوا ورجعوا عما هم فيه من التعويق، وإبعاد الناس عن القتال والجهاد وطاعة الله ورسوله، فإن الله يتوب عليهم.
وقوله: ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ [الأحزاب: ١٨].
أي: الذين تركوا المعركة خوفاً من اليهود وغيرهم من المشركين المهاجمين، قالوا لإخوانهم الذين بقوا مع النبي ﷺ وأصحابه: هلموا إلينا وأقبلوا علينا واتركوا محمداً وأصحابه.
وقوله: ﴿وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: ١٨].
أي: أنهم إذا تظاهروا بالإسلام والقتال لا يحضرون المعركة إلا برهة من الزمن لا تكاد تعد، ولا تكاد ينظر لها، بل لا يكادون يحملون السلاح إلا رياء ونفاقاً، فإذا اشتد هلعهم وزاد خوفهم وبلغت منهم القلوب الحناجر أعلنوا الكفر، وفروا من المعركة، وأخذوا يحضون المؤمنين على ترك القتال، فهم إن أتوا القتال لا يأتونه إلا قليلاً مع النفاق والكذب، وهم يعوقون المؤمنين عن حضور المعارك، ويريدون بذلك انفراد النبي صلى الله وعليه وسلم مع أعدائه ومعه قلة من المخلصين، وهيهات أن يغلب من كان الله معه.
والنبي صلى الله وعليه وسلم كان وحده بين الكفار مع قلة من أصحابه في المدينة النبوية، والكفار من كل جانب، فكلهم يحاولون قتله ويحاولون صده، ويغرونه بالملك وبالمال وبالنساء، ويرهبونه بتعذيب أصحابه وأتباعه، ويشتمونه ويتهمونه، والنبي ﷺ ثابت ثبوت الجبال الرواسي، وقد تهتز الجبال وتتزلزل ولا يهتز صلى الله عليه وسلم.
وقبل الهجرة جاءته قريش يعرضون عليه الملك والنساء والمال، على أن يترك الدعوة إلى دين الله، حتى كاد أبو طالب أن يغرى بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الأمر ما تركته، حتى يقضي الله أمره أو أهلك دونه).
أي: لن أترك ما أمرني الله به إلى أن أموت أو أنتصر، فهو قد مات عليه الصلاة والسلام كما يموت كل حي، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]، لكن لم يلق الله إلا بعد النصر وبعد العز، وبعد الغلبة، وبعد عودته إلى مكة عزيزاً منصوراً مظفراً، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد﴾ [القصص: ٨٥] أي: حين خرج النبي ﷺ مهاجراً من مكة إلى المدينة وهو في الطريق أنزل عليه يبشره بأنه سيعود إلى مكة منتصراً، فبشر بذلك المسلمين، وما كادت السنة الثامنة من الهجرة تقبل وتهل إلا ودخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة عزيزاً مظفراً منصوراً، دخل القبلة المحمدية، ومكان الحج والمناسك التي فرض الله على كل مسلم في الأرض أن يأتيها حاجاً مرة في العمر إن كان مستطيعاً، ويستحب مرة عند كل خمس سنوات، كما في مسند الإمام أحمد.
وقوله: ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ [الأحزاب: ١٨].
(هلم) اسم فعل أمر مبني على السكون دوماً، بمعنى: أقبل إلينا، ويخاطب بها المفرد والمثنى والجمع بصيغة واحدة: هلم يا رجل، هلم يا امرأة، هلم يا رجلان، هلم يا امرأتان، هلم يا رجال هلم يا نساء، وهي بمعنى الإقبال والقدوم.
وقوله: ﴿وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: ١٨].
أي: لا يأتون القتال إن أتوا، والبأس: الحرب والقتال، لا يأتونه إلا قليلاً، بلا رياء ولا صدق ولا إخلاص يحذر الله نبيه والمؤمنين من هؤلاء المنافقين أن يصدقهم وأن يقبل قولهم.