قبول زوجات النبي بالعيش معه مع الزهد والتقشف وشظف العيش
قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٩].
أي: إن كنتن يا هؤلاء الزوجات تفضّلن ربكن في طاعته، فطاعته في طاعة نبيه، ونبيه قد آثر الحاجة والفقر يجوع يوماً ويشبع يوماً، آثر أن يعيش نبياً عبداً لله دون أن يعيش عيشة الملوك كما عاش أنبياء سبقوه من أنبياء بني إسرائيل كسليمان وداود وغيرهما.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يرد أن يعيش عيشة الملوك في الغنى والرفاهية، ومع ذلك فقد كان سيد الملوك وكان ملكاً بالفعل، فالملك هو رئيس الدولة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان رئيس دولة، فقد ظهر في جزيرة العرب في بطحاء مكة وجبالها ثم انتقل إلى المدينة المنورة وبطحائها وجبالها، ولم تكن في جزيرة العرب دولة، ولم يكن لهم رئيس ولا ملك، فعندما آمن المؤمنون من المهاجرين والأنصار، أو بقي من لم يؤمن إما منافقاً أو محارباً مكسوفاً ولكنهم ذلوا وخنعوا وخضعوا بعد الحروب المتوالية التي نصر الله فيها نبيه عليه الصلاة والسلام والمسلمين، وكان يتصرف فيهم تصرف رئيس الدولة يأمر وينهى ويُطاع، ومن خالف يُعاقب، وكان يقطع ويرجم ويقتل في الحدود، وكان يرسل القادة، ويعد الجيوش، ويفتح الأقطار، ومن خالف حاربه وقاتله ومن هاجمه قام بمواجهته، وهذا فعل الدولة.
والله تعالى حرّم علينا أن نناديه أو نسميه بما نسمي بعضنا البعض، فمن الآداب في الإسلام أن يلقّب الإنسان ويسمى بأحسن أسمائه، وقد قال الله لنا في أدبنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣].
ننادي بعضنا البعض بالملك والأمير ورئيس الدولة والقائد والحاكم، أما النبي ﷺ فنقول: يا نبي الله، ونقول: يا رسول الله هذا لمن صاحبه، أما نحن فنختم هذه الكلمة بصلى الله عليه وسلم، ولا تقال لغيره، ولا نبي بعده، وإن تحدثنا عنه فكذلك نقول: قال رسول الله، وقال: نبي الله صلى الله عليه وعلى آله، ولا نقول: قال ملك العرب، وإن كانت الروم وفارس ومشركو قريش وجزيرة العرب يقولون عنه: ملك العرب، وأبو سفيان عند فتح مكة أخذ أسيراً في ضواحيها، وتركه النبي ﷺ عند عمه العباس وقال: دعه يرى عرض جند الله وهم يدخلون مكة فاتحين، فأخذ أبو سفيان يسأل: من هؤلاء؟ من هؤلاء؟ من هؤلاء؟ ودخلوا مكة في عشرة آلاف جندي شاكي السلاح باللأمة الكاملة وهو يسأل فيقول: ما لي ولقبائل فلان، لم تكن بيني وبينهم حرب، كان يتكلم كما لو كان أمير مكة، ويتكلم عن رسول الله ﷺ كما لو كان ملك العرب، إلى أن قال للـ عباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً يا عباس! قال: ويلك إنها النبوة، قال: والله لا يزال في نفسي من هذه شيء.
فهو رأى ما يكون للملوك من جيوش وأمر ونهي وطاعة؛ وهكذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان نبي الله، وكان رسول الله، وما عمل الملك والرئاسة إلا بعض وظيفته في النبوة والرسالة، ولا ينادى بذلك ولا يلقّب.
وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٩].
كن جميعاً محسنات، وكن جميعاً صادقات، وجميعهن آثرن الله ورسوله والدار الآخرة.
وبعدما نزل ما نزل من وحي تبن لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، وخضعن لما أراده من شظف العيش والزهد في الدنيا، وأصبحن يعشن كما يعيش عليه الصلاة والسلام، حتى لقد كانت عائشة تقول: (يمر علينا الشهر والشهران ولا توقد في أبيات النبي ﷺ نار، إنما الأسودان: التمر والماء).
عشن رضي الله عنهن تبعاً لزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمر عليهن الشهر والشهران ليس هناك إلا الماء والتمر، ويحمدن الله ويشكرنه؛ لأنهن زوجات رسول الله عليه الصلاة والسلام، لأن الله أكرمهن وسماهن أمهات المؤمنين (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) كما روى ابن عباس وزيد بن ثابت فيما سبق أن فسّرنا في الآية السابقة في هذه السورة المباركة.