تفسير قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
قال الله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٣].
أمر الله نساء رسوله ﷺ بلزوم الإقامة في البيت، والأمر لهن أمر لنساء المسلمين قاطبة.
فقوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣].
قرن: من القرار والملازمة والإقامة، أي: لا تخرجن من دياركن إلا لما لا بد منه، ولذلك أذن بعد ذلك، وهو مفهوم قوله تعالى: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣] أي: إن كان هناك داع للخروج كالخروج للصلاة في المسجد أو الحج أو لزيارة رحم أو لسبب من الأسباب الشرعية الواجبة فلا بأس.
أما سوى ذلك فكما قال الله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣] أي: الزمن بيوتكن وأقمن فيها، ولذلك أخذ النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع نساءه جميعاً فحججن معه، ثم قال لهن عليه الصلاة والسلام: (هذه ثم ظهور الحصر) أي: هذه الخرجة للحج فقط، وبعد ذلك الزمن الحُصُرَ في بيوتكن فلا خروج ألبتة.
وكانت أم سلمة لا تخرج من بيتها أبداً إلى أن لقيت الله، وكذلك كن أمهات المؤمنين، وما كان من خروج عائشة في معركة الجمل إنما كان ذلك قضاء وقدراً، وكان عن اجتهاد منها، ثم ندمت وبكت واستغفرت.
وعندما طلب عمر رضي الله عنه منها مكاناً ليدفن فيه بجوار صاحبيه، وكانت الغرفة التي فيها النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر هي مسكنها وغرفتها، أرسل ولده عبد الله وقال له: اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فاطلب منها أن أكون مع صاحبي فكان الجواب أن قالت: سأوثر أمير المؤمنين به وكنت أريده لنفسي.
فعندما حضرت معركة الجمل ورجعت وندمت قالت: أدفنوني مع أمهات المؤمنين، ادفنوني مع أخواتي من أزواج رسول الله عليه الصلاة والسلام في البقيع، فما صدر عني لا يصح أن أكون فيه معه رسول الله، قالت هذا لنفسها، وهي إنما فعلت ذلك اجتهاداً، وما أرادت إلا الخير، وما قصدت إلا الإصلاح، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، ولكنها عاقبت نفسها بأن منعت نفسها من أن تدفن مع رسول الله وصاحبيه.
فقوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣] أي: لا يخرجن إلا إلى المساجد أو إلى أمر يجب عليهن الخروج له، قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ومع ذلك قال لهؤلاء الإماء: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وصلاتها في مخدعها خير لها من صلاتها في بيتها)، ومع ذلك قد أذن لها بالصلاة في المسجد بشروط: قال عليه الصلاة والسلام: (فليخرجن تفلات) أي: غير متزينات ولا متبرجات ولا متعطرات، فإن كانت ستخرج إلى المسجد متزينة متبرجة كاشفة زينتها ففي هذه الحالة تحرم عليها الصلاة في المسجد، لما يصدر منها من التبرج، ولذلك لما قال الله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣] قال بعد ذلك: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣] أي: أذن لهن بالخروج إلى الصلاة، لكن بلا تبرج، وإنما يخرجن تفلات غير متعطرات وغير متزينات وغير متبرجات، وأذن لهن في الخروج لصلة الرحم وللضرورة الماسة التي لا بد منها، أما الخروج إلى الأسواق والتلاعب في الشوارع وما نرى عليه عصرنا الفاسد فتلك الجاهلية الثانية.
فقوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣].
التبرج من الظهور، ومنه سمي البرج برجاً؛ لكونه متبرجاً ظاهراً بارزاً، والمرأة عندما تريد أن تظهر زينتها لرجل تبرز ذلك بزينة وعطر وكشف ما لا يجوز من محاسن ومن شعر ومن جيد أو أي شيء حرمه الله عليها.
قال: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣] أي: الجاهلية التي قضى عليها الإسلام وجاء بعدها، ومنه سمي العصر عصر جاهلي والشعر شعر جاهلي، والعمل عمل جاهلي، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال لبعض أصحابه عندما قال لعبد: يا ابن السوداء قال: (إنك امرؤ فيك جاهليه) أي: عندما عيره بأمه ولونه، وما الفرق بين الأبيض والأسود وكل ذلك خلق الله؟ وكم من أسود هو أتقى وأشرف وأقرب إلى الله من كثير من البيض!


الصفحة التالية
Icon