حكم طلاق غير المدخول بها
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩].
أي: يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن هذا حكم من أحكام الله: وهو أن زوجاتكم اللاتي عقدتم عليهن ثم بدا لكم طلاقهن قبل المساس وقبل الجماع وقبل الدخول بهن فليس لكم حق في أن يعتددن لكم؛ لأن العدة في الأصل بالنسبة للمطلقة هي للاستبراء، من أن يكون في رحمها ماء للزوج المطلِّق، ولا يجوز أن يلتقي ماءان في رحم مسلمة، بل في رحم امرأة مزوجة مطلقاً، وبما أن هذه لم يدخل بها ولم توطأ فالماء لم يصل من زوجها المطلِّق الذي لم يمسها، فلا معنى إذاً للاعتداد، والعدة تكون للمطلقة ثلاثة قروء، أي: ثلاث حيضات؛ ليطمئن على أنها ليس في بطنها ورحمها جنين لهذا المطلِّق، إلا ما كان ممن مات عنها قبل أن يدخل بها، فعدة من مات عنها زوجها ليست للاستبراء بل هي حداد وحزن على الزوج الميت فرضه الله تعالى على الزوجة، وحرمه على غيرها أكثر من ثلاثة أيام، ولو كان الميت أباً أو أماً.
إذاً: المرأة التي تطلّق قبل الدخول بها وبعد العقد لا عدة عليها من الطلاق، فبإمكانها بمجرد الطلاق أن تتزوج بمن يرغب فيها وبمن شاءت، هذا أمر الله وحكمه في المطلقات قبل المساس بهن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف رضي الله عنهم من صحابة وتابعين: بأن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح.
وهو مذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام أحمد بن حنبل وهو مذهب الجماهير قبلهم وبعدهم.
وبعض الناس تجده يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، والبعض يقول: إذا تزوج من المدينة الفلانية فكل زوجة يتزوجها منها فهي طالق، والبعض يتجاوز الحد ويقول: كل امرأة يتزوجها فهي طالق، فالآية الكريمة صريحة بأنه لا طلاق إلا بعد نكاح، فإذا لم يكن هناك عقد فلا طلاق، وقد بين ذلك نبي الله عليه الصلاة والسلام ورويناه عن ثلاثة من الصحابة كما في مسند الإمام أحمد وفي سنن أبي داود وفي سنن الترمذي وسنن ابن ماجة عن المسور بن مخرمة وعن علي بن أبي طالب وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لا طلاق لمن لم تملك، لا طلاق إلا بعد نكاح).
فكان النص صريحاً في كتاب الله وفي حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع هذا وجد قلة من الأئمة ومنهم الإمام أبو حنيفة والإمام مالك قالا: من قال: إن فلانة وعينها إذا تزوجها أو عقد عليها فهي طالق، أو المدينة الفلانية أو الأسرة أو العشيرة إن تزوج منها فهي طالق! وزاد أبو حنيفة فقال: من قال: كل امرأة يتزوجها فهي طالق؛ لا يحل له النكاح ولا يجوز بعد ذلك أبداً، فهو قد طلّق كل نساء العالمين قبل الدخول بإحداهن.
وقال مالك: إن طلّق فأطلق ولم يعين مدينة أو عشيرة أو واحدة بعينها فالطلاق عبث لا أثر له، وذلك مبني على قاعدة أصولية عنده وعند غيره من الأئمة وهي: أن الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق.
فإذا ضيّق على نفسه وقال: كل امرأة يتزوجها فهي طالق فهذا الضيق ينتهي إلى سعة؛ لأنه حرّم ما أحل الله ولا يحل له ذلك، والزواج فرض عند الكثيرين من الأئمة لمن استطاعه بدناً، أما المال فيقول تعالى: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: ٣٢] فليس الفقر عذراً لعدم الزواج.
قالوا: فإذا اتسع الأمر ضاق، فإذا قال: إذا عقد على فلانة فهي طالق، أو العشيرة أو القبيلة أو البلدة إن نكح منها فكل من ينكحها منها فهي طالق؛ هذا يكون قد وسّع على نفسه؛ لأن النساء غير من سمى كثيرات، والعشائر والأسر والقبائل والمدن غير من سمى كثيرة، فهو قد وسّع على نفسه، فضاق الأمر عليه من جهة واتسع من أخرى.
ولكن مع كل هذا فالآية صريحة، والأحاديث صريحة وقد صححها الأئمة الحفاظ ووردت عن ثلاثة من الأصحاب عن الخليفة الراشد علي وعن المسور بن مخرمة وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لا طلاق فيما لا يملك العقد، ولا طلاق إلا بعد نكاح) وهذا مذهب جماهير السلف من صحابة وتابعين.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] أي: من قبل الوطء والجماع، ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩] وهذا إجماع.
قال تعالى: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: ٤٩]، قال الجمهور: متعوهن إذا لم يفرض لهن مهر، فإن فرض فلها نصفه وعليها أن ترد نصفه، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] يعني: إذا كان هناك فرض أو أداء لمهر قبل الدخول وطُلِّقت فلها نصف المهر وعليها أن ترد النصف، وإن كانت فوضت أمرها لهذا الذي تزوجها، فبعد الدخول عليه أن يعطيها مهر أمثالها، فإن أرجأته فلا بد أن يكون ذلك بعد موته ولا أجل بعد ذلك، ويدخل في الدين، وإن كان قد ذُكر لها المهر فلها النصف إن طلقها قبل الدخول بها، فإذا لم يذكر لها مهر فتمتع على الموسع قدره وعلى المقتر قدره حسب غنى الزوج وفقره، ويمتعها بمال، وقد طلّق النبي ﷺ امرأة هي أميمة بنت شراحيل قبل أن يدخل بها، وقد تأبت عندما دخل عليها ودعاها للمجيء إليه فقالت: الأمراء لا يأتون للسوقة، فطلقها وقال: (الحقي بأهلك) وأمتعها بثوبين زارقيين؛ لأنها لم يفرض لها مهر.
وهناك قلة من الفقهاء يوجبون المتعة مع المهر قبل المساس وبعد المساس، سواء طُلِّقت بعد الدخول، أو طُلِّقت قبل الدخول، سواء أخذت مهراً أو لم تأخذ، فمع نصف المهر لمن لم تمس، ومع المهر لمن دُخل بها، لا بد عند الطلاق من متعة هي عوض عن الطلاق، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، قالوا: حتى في هذه الآية إن ذُكر لها مهر فلها نصفه ولها مع ذلك متعة الطلاق، فمتعة الطلاق شيء زائد عن مهر الزواج والعقد.
وقوله: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: ٤٩] السراح الجميل: هو الطلاق بلا كلمة مؤذية ولا صخب ولا نزاع ولا مرافعات للمحاكم، ﴿فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] والإحسان أن تأخذ حقها كاملاً من مهر ومتعة أو من نصف مهر أو جميعه.


الصفحة التالية
Icon