تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن)
قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٠].
هذه الآية الكريمة هي أحكام متتابعة متعلقة بنبي الله عليه الصلاة والسلام، وكما أنه رسول إلى الناس كافة فهو مرسل إلى نفسه كذلك، فما أمره الله أمراً خاصاً فعليه أن يقوم به، وإذا لم يذكر في الأمر أو النهي على أنه خاص به كما ذُكر في هذه الآية الطويلة، فكل الأوامر والنواهي تشمله عليه الصلاة والسلام كما تشمل المؤمنين من أتباعه.
فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٠].
أي: أحل الله له من النساء من آتاهن مهورهن وصدقاتهن، هذا نوع وفئة من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج كما يتزوج المؤمنون بمهر وولي وبشاهدي عدل، ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠] أي: من دخل بهن ومن يرغب فيهن بعد، وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة زوجة، اجتمع عنده منهن تسع، وماتت إحداهن، وطُلِّقت إحداهن قبل الدخول، وواحدة من الأصل ذُكرت ثم تركها، عُرضت عليه فقبلها النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذت أمها تثني على جمالها وعلى كمالها وعلى صحتها وقوتها إلى أن قالت: لم تصرع قط ولم تمرض قط، فقال لها: (لا حاجة لي فيها) فالمؤمن يُشاك شوكة ويمرض ويكون ذلك كفارة له، والذي ليس كذلك قد يكون ذلك استدراجاً كما يستدرج الكفار والمنافقون، ويجمع الله له العذاب إما في أخريات أيامه عند الموت أو يوم القيامة.
وكان عنده من القرشيات ست: خديجة أم المؤمنين الأولى، وعائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة، وأم سلمة وكان عنده زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته.
وأخذ من أسرى خيبر صفية بنت حيي بن أخطب فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وجاءت أمة كان ملكها في الأسرى وهي جويرية بنت الحارث المصطلقية الخزاعية فكاتبت مالكها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أو ابن عم له فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أو خير من ذلك أُؤدي عنكِ كتابتك وأتزوجكِ؟ قالت: نعم).
وهؤلاء كان مهرهن ما يعادل خمسمائة درهم، أي: ما يعادل أربعمائة ريال تزيد قليلاً، إلا أم حبيبة فأنكحه إياها النجاشي ملك الحبشة وأصدقها عن نبي الله عليه الصلاة والسلام أربعمائة دينار، وجويرية وصفية أعتقهما ﷺ وكانتا أمتين، وجعل عتقهما صداقهما.
وكان له من الإماء مارية القبطية وريحانة وغيرهما.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٠] أي: مهورهن وصدقاتهن.
﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠] كما أحل الله له ملك اليمين، وهن الإماء والجواري اللاتي يؤخذن نتيجة معركة ظفر فيها المسلمون وأخذوا النساء جواري وإماء، بعد موافقة رئيس الدولة الإمام.
وكان نبي الله ﷺ مع نبوته إمام المسلمين ورئيس دولتهم، وقائد جيشهم، والحاكم لمحاكمهم، والمعيّن والعازل لموظفيهم، ولكنه يسمى بأحب الأسماء إليه وأشرفها، قال تعالى: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] أي: لا نناديه إلا نبي الله ورسول الله، وإذا ذكرناه لا نذكره إلا ونصلي عليه: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل عليَّ) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
فقوله: ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠].
ملك اليمين كلمة تقال في التملك، وإلا فهي ملك لليمين ولليسار وللشخص كله، لكن جرت العادة أن يقال لغة: فلان ملك بيمينه كذا، وعقد بيمينه على كذا، والقرآن نزل بلغة العرب.
﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠].
أي: مما أعاده الله إليك، والفيء: هو العودة والإعادة، ومعناه أن الله جعل الكون يوم خلقه للمؤمنين الموحدين، فإن خرج بعض ذلك عن أيديهم فلمعصية أو خلاف منهم، فإذا عادوا إلى الله وقاتلوا وانتصروا فما يعود لهم من أرض وعقار وأموال وإماء وجوار فذلك قد عاد إلى أصله وعاد إلى المؤمنين.
ثم قال ربنا: ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠].
أي: أباح له الله جل جلاله أن يتزوج من شاء من بنات عمه وبنات عماته، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يتزوج من بنات عمه المباشر الملاصق، ويقال لكل كبير من العشيرة: عم، ولكل كبيرة منها: عمّة، أي: قد أبحنا لك زواج القرشيات، فبنات عمه قرشيات وبنات عماته قرشيات، فأذن الله له أن يتزوج من هذه الفئة من القرشيات من بنات العم وبنات العمة.
ثم قال ربنا: ﴿وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠].
أي: كما قد أذن له في بنات العم وبنات العمّة، أذن له في بنات الخال وبنات الخالة، وأمه آمنة كانت من بني زهرة بن عبد مناف، فيكون قد أباح الله له أن يتزوج من بنات خاله وخالاته من بنات زهرة بن عبد مناف، وهن قرشيات.
فقيّد الله كل ذلك بقوله: ﴿اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠] وفسّر بعض المفسّرين ذلك بالمسلمات، أي: لا يحل لك أن تتزوج من هؤلاء إلا مسلمة موحدة؛ لقوله تعالى: ﴿اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠] ولا تهاجر معه إلا من أسلمت، أما من بقيت على كفرها فهي لم تهاجر، ومن يقبل هجرتها؟ فتفسير ذلك بالإسلام اللازم للهجرة على أن المعنى أعم من ذلك؛ لأن بعض المضطهدات من بنات عمه وبنات عمّاته، وبنات خاله وبنات خالاته، بقين في مكة، وفي هذه الحالة لم يأذن الله له ولم يحل له الزواج بهن؛ لأنه قيّد ذلك بالهجرة معه، فإذا لم يهاجرن معه فهن محرمات عليه، وكان هذا عندما كانت مكة لا تزال دار كفر، أما بعد أن فتحت وأصبحت دار إسلام فهذا الشرط قد سقط بطبيعة الحال؛ لأنها أصبحت دار إسلام وسكانها مسلمون، وأرجئوا قبل ذلك أربعة أشهر ثم فر وهرب منها من هرب وأسلم الباقون.
ومن خصائص مكة ومسلميها أنه لم يكن فيهم منافق لا ذكر ولا أنثى، وإن كان فيهم بعد الإسلام الطلقاء الذين قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فسمح لهم وعفا عن ذنوبهم فأصبحوا من ساعتها يقال عنهم: الطلقاء، ولم يكن فيهم منافق ولكن فيهم المؤلفة قلوبهم الذين لم يدخل الإسلام ويتمكن من القلوب، وبقي هذا زمناً ثم حسن إسلام الكل.