اختلاف العلماء في كون مريم وغيرها نبيةً
من هذه الآية وأشباهها قال من قال بأن مريم كانت نبية؛ إذ جبريل لا يرسل إلا إلى الأنبياء والرسل، وهذا رأي طالما اختلف فيه الأئمة واختلفت فيه المذاهب، ولكن من يقول بأنه قد كان في النساء نبيات أدلتهم ظاهرة من القرآن وقصصه وآياته، ومريم قد جاءها جبريل رسولاً من عند الله، فخاطبها وخاطبته وكلمها وكلمته، وبلغها رسالة ربه فكانت بذلك نبية، وليس من النساء رسول، وفرق بين النبي والرسول، فالنبي عبد لله أمر بشرع في نفسه ولم يكلف بتبليغه للناس، والرسول نبي أمر بشرع وكلف بأن يبلغه لغيره.
فعلى ذلك فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، ومريم نبية وليست برسول.
قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ﴾ [مريم: ١٩] وفي القراءات السبع: ليهب لك، فسواء كان التعبير عنه أو عن ربه فالمعنى واحد، أي: ليهب لها ويعطيها ويكرمها، ﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: ١٩] أي: تقياً صالحاً ونبياً مباركاً، زكت أخلاقه وأعماله وعباداته وطاعته، وكان من أكرم الناس وأتقاهم وأكملهم، فقالت مريم إذ ذاك بعد أن اطمأنت: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٠].
أي: يا أيها الرسول كيف سيكون لي ولد وأنا امرأة لستُ ذات زوج ولا بغيًّا فأزني، ولم يسبق أن مسني بشر لا بحلال ولا بحرام، والولد لا يتكون إلا من نطفة الرجل وأنا لا أعرف في حياتي زوجاً ولا خليلاً، والخليل لا يليق بي؟! فقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [مريم: ٢٠] أي: لم يتصل بي ولم يجامعني رجل بزواج أو كتاب أو عقد، فأنا لا أزال عذراء بكراً (ولم أك بغياً)، ولا يليق بي ذلك، فكيف سيكون هذا الولد ومن أي شيء سيتكون؟! وإذا بجبريل يجيب: ﴿قَالَ كَذَلِكِ﴾ [مريم: ٢١] أي: كما تعتقدين أن الله سيرزقك وسيهب لك غلاماً بلا مس من رجل ولا من حرام ولا حلال، كذلك ستلدين وأنت عذراء ومحسنة وصالحة وبريئة.
قال تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: ٢١] فكونك ستلدين بلا زوج ولا خليل ولا نطفة رجل فذاك الذي سيحصل، والله قادر على كل شيء وهو عليه هين، وهذا قد مضى في قصة زكريا عندما دعا ربه بأن يرزقه غلاماً على كبر سنه، وعلى بلوغ زوجته السن الفانية، بحيث رق عظمه ووهى، وتساقطت أسنانه، وأصبح جلداً على عظم، وامرأته مسنة عاقر، فلما دعا ربه استجاب له ربه فقال ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠]، فقال له جبريل: ﴿كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: ٩].
وكذلك يجب أن تعلمي يا مريم أن الله خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق حواء من أب بلا أم، وهو قادر على أن يخلق ولداً بلا أب، وذاك من قدرته وبديع صنعته وعالي أمره جل جلاله وعز مقامه، فإذا أراد شيئاً لا يكلفه أكثر من أن يقول له: كن فيكون.
قوله: (كذلكَ) هذه الكاف ليست من اسم الإشارة، فاسم الإشارة ذا، لكن هذه الكاف تضاف إليها وتكون حسب المخاطب، فإن كان المخاطب ذكراً مفرداً فيقال: ذاكَ، وإن كان المخاطب مذكرين أو مؤنثين فيقال: ذاكما، وإن كان مؤنثاً مفرداً يقال: ذاكِ، وإن كان جمع ذكور يقال: ذالكم، وإن كان جمع إناث يقال: ذالكن، واسم الإشارة بحاله لا يتغير وهو (ذا).
فهذا الذي تتعجبين منه يا مريم سيكون، فهو من قدرة الله، وأعجب منه أن أباك الأول آدم وأمك الأولى حواء قد كان آدم بلا أب ولا أم، وكانت حواء من أب بلا أم، وهذا سيكون من أم بلا أب، وقدرة الله صالحة لكل شيء جل جلاله، فهو الذي يصنع العادة.
قال تعالى: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً﴾ [مريم: ٢١] أي: علامة على قدرة الله وبديع صنعه، ورحمة من الله للخلق، حيث سيأتيهم فيدعوهم إلى الله الواحد؛ ليفردوه بالعبادة، وليخصوه بالطاعة.
قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٢١] أي: سبق ذلك في علم الله وقضائه أنه لا بد منه، وسبق أن قلنا في أكثر من مناسبة: إن اللوح المحفوظ لوحان: لوح من قبل الله لا يراه إلا هو، ولوح من قبل جند الله الملائكة يراه الله وملائكته، فما كان في اللوح الذي من قبل الملائكة فهو الذي يقول الله فيه: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩]، أما اللوح المحفوظ الذي لا يراه إلا هو فيقول عنه: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩]، فاللوح الذي من جهة الملائكة يعتريه المحو والإثبات، ويرد فيه الدعاءُ القضاءَ، ويرده البر والطاعة خاصة دعوة الأبوين عن ظهر غيب، فتزيد السن وتنقص، ويزيد الرفق وينقص، ويتغير ما في اللوح.
أما اللوح الذي من قبل الله الذي لا يراه إلا هو فهو ما يقول عنه: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩]، وهو ما حدث في الإسراء النبوي عندما أمر ﷺ بخمسين صلاة في اليوم والليلة، فعندما نزل إلى موسى قال له موسى: ما الذي أمرك به ربك وأمر أمتك؟ قال: أمرني بخمسين صلاة، قال: ارجع إليه فإن أمتك لا تستطيع ذلك، وبقي يصعد وينزل، والله ينقص له خمساً، ثم خمساً، ثم خمساً إلى أن أصبحت خمساً فقط من خمسين، فقال له عند ذاك: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩] أي: تلك الخمسة هي المكتوبة في أم الكتاب، فاللوح المحفوظ من قبل الله الذي لا يعتريه محو، ثم قال الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: هي خمس في الأداء وخمسون في الأجر والثواب، والحسنة بعشرة أمثالها.
قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٢١].
أي: وكان هذا من القضاء الثابت: أن نفخ جبريل في جيب قميصها نفخة وصلت إلى فرجها ودخلت في رحمها، فكان من تلك النفخة الحمل.