تابع تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن)
قال الله تعالى: ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ [الأحزاب: ٥٥].
نحن لا نزال مع سورة الأحزاب وما فيها من أحكام الحلال والحرام، وأحكام النكاح للمؤمنين جميعاً ولرسول الله ﷺ خاصة، وما في السورة من آداب ورقائق وتهذيب، آداب الأسرة في أدبها في بيوتها وفي ولائمها ومع الناس.
عندما أنزل الله سبحانه الحجاب وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة في شهر ذي القعدة حيث كانت غزوة الأحزاب التي سميت بها السورة، نزل قوله تعالى فيما نزل من آية الحجاب: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣] ولو بقيت هذه الآية وحدها لفهم أن الحجاب عام في المحارم وغير المحارم، ولكن الله جل جلاله استثنى من ذلك المحارم بعد أن فرض الحجاب على أمهات المؤمنين وتبعاً لهن نساء المؤمنين، وجعل ذلك فرضاً واجباً على كل امرأة مسلمة قد بلغت الحلم.
فاستثنى الله بعد ذلك بقوله: ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٥] أي: لا جناح ولا إثم ولا حرج على أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين في الكشف لآبائهن، أو أبنائهن، أو إخوانهن، أو أبناء إخوانهن، أو أبناء أخواتهن، كل ذلك قد أباح الله لأمهات المؤمنين وللنساء المؤمنات، أباح لهن عدم الحجاب منهم؛ لأنهم محارم.
وقوله: ﴿وَلا نِسَائِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٥] فسر المفسرون النساء هنا مع الإضافة إليهن أي: النساء المسلمات، أما المرأة غير المسلمة فلا يباح للمؤمنة ولا لأمهات المؤمنين أن يكشفن لهن.
ولكن بعض المفسرين من المحققين يقولون: إن معنى قوله: ﴿وَلا نِسَائِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٥] أي: لا يحتجبن من النساء مطلقاً كما لا يحتجبن من ذوي المحارم أو ما ملكت أيمانهن.
وقوله: ﴿وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٥] أي: ولا حرج ولا إثم في ملك اليمين، قالوا: ملك اليمين هنا النساء، ولا دخل للرجال في الموضوع؛ لأن الرجال قد خرجوا في الآية السابقة: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣] فهنا الخطاب لكل الرجال سواء كانوا أحراراً أو عبيداً.
فقوله: ﴿وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٥] أي: ما ملكت اليمين من الإماء لأمهات المؤمنين فلا حرج في عدم الحجاب منهن.
وهذه الآية لم يذكر فيها أبناء الأزواج، والربائب.
وفي قوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] ذكر البعولة، أما هنا فالبعل هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأيضاً لم يذكر أبناء البعولات، من هنا كان الحسن والحسين أبناء فاطمة وأبناء علي، أسباط رسول الله عليه الصلاة والسلام، بما أن أبناء البعولة أبناء الزوج الذي هو رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يذكروا هنا في الآية، فـ الحسن والحسين كلاهما: بالنسبة لأمهات المؤمنين كغيرهما من الرجال، وبقيا على عموم الحجاب، فلم يكن الحسن ولا الحسين يدخلان على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونا يوماً يريدان رفع الحجاب بينهما وبينهن، وأمهات المؤمنين أقررن كذلك أن الحسن والحسين وهما أبناء رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ولكن الحسن والحسين عليهما السلام فهما الآية فهماً ظاهرياً، ومن أدلة الظاهرية داود وابن حزم ورجال مذهبهما أن النص يفهم على ظاهره، فـ الحسن والحسين لأنهما لم يذكرا في هذه الآية حسبا أنفسهما أجانب عن أمهات المؤمنين، فيجب عليهن أن يحجبن منهما، وبقيا هكذا مدة حياتهما رضي الله عنهما.
لم يذكر في الآية كذلك ما ذكر في إبداء الزينة كما في سورة النور: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] وإنما ذكر الباقي من أبناء الإخوة وأبناء الأخوات والنساء وملك اليمين.
ولم يذكر الخال والعم لا في الآية الأولى ولا في الآية الثانية، ومن هنا كره بعض الأئمة أن تكشف البنت خمارها وشعرها أمام عمها أو خالها؛ لأنهما قد يصفان بنت الأخ وبنت الأخت لأولادهما، والأمر ليس كذلك، فالعم محرم والخال محرم، ولكن العم دخل في ذكر الأب: ﴿أَوْ آبَائِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] فالعم أب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (العم صنو الأب) أي: هو أب وأخ للأب وفي رتبة الأب.
ولم يذكر الخال؛ لأنه في معنى الخالة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخالة أم).
هذه الآيات الكريمات لم يذكر الله فيها ابن العم وابن الخال؛ لأنهما أجنبيان، والزواج بهما صحيح جائز بإجماع المسلمين.
وقد جاء الإسلام وسطاً بين اليهود والنصارى، فالنصارى حرموا الزواج بابنة العم وابنة الخال، واعتبروهما كالأختين إلى سبعة آباء.
واليهود أفرطوا وتجاوزوا الحد فأباحوا زواج بنت الأخ لعمها، وبنت الأخت لخالها، فتزوجوا المحارم.
وقوله: ﴿وَلا نِسَائِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٥] أي: من كن من جنسهن فلا استثناء، فالنساء كلهن لا يحتجب بعضهن من بعض إلا في العورات، والمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الرجل من السرة إلى الركبتين، فما سوى العورات يجوز أن يراه المحرم، وما كان من العورة فلا يجوز بحال إلا للزوج.
ومن هنا ذكرت البعولة -أي الأزواج- في قوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] فهذا استثناء من الحجاب الذي فرضه الله على نساء النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم أمرهن بالتقوى فقال: ﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٥٥].
أي: خفن من الله واخشينه، وخفن عذابه وعقابه وأطعنه، أحللن حلاله وحرمن حرامه فيما أمر به في كتابه، وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام طاعة له.
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ [الأحزاب: ٥٥] هذا نذير ووعيد، أي: اعلموا يا هؤلاء أن الله شاهد ورقيب على أعمالكم، إن فعلتم خيراً فمرجع ذلك في الخير والجزاء لكم، وإن فعلتم سوى ذلك فإثمه عليكم، ولكن نساء النبي ﷺ رضي الله عنهن كن في منتهى التقوى والصلاح والطاعة والرضا لله ولرسوله.


الصفحة التالية
Icon