تفسير قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض)
قال الله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: ٦٠].
ذكرنا في الدرس الماضي أن آية الحجاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٩] عامة، وكان الفساق والمنافقون في المدينة المنورة ينتهزون فرصة خروج هؤلاء الكرائم والعقائل إلى قضاء حاجتهن ليلاً، ولم يكن في دور المدينة مراحيض، فكان هؤلاء إذا رأوا أمة حاولوا الفسق بها، ولذلك أمر الله الحرائر أن يلبسن الحجاب ليميزن ويعرفن أمام هؤلاء المنافقين فيهابون رجالهن وآباءهن فلا يفعلون ذلك، هذا بالنسبة للنساء.
أما بالنسبة للحكم فقد تهدد هؤلاء وأوعدهم بأنهم إن لم ينتهوا عن هذا ليسلطن عليهم رسوله عليه الصلاة والسلام، فيطردهم عن جواره ويقتلهم تقتيلاً، ويمكر بهم مكراً حيث وجدوا بعد طردهم عن المدينة.
قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ [الأحزاب: ٦٠] تهديد ووعيد لهؤلاء المنافقين، والمنافق هو من أظهر غير ما يبطن، وكانوا في المدينة كثيرين من الأوس والخزرج واليهود.
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: ٦٠] أي: مرض قلوب هؤلاء بسبب أنهم كانوا فساقاً زناة، ومرض القلب هنا فسر بالزنا والسعي خلفه.
وقوله: ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ [الأحزاب: ٦٠] الإرجاف هو التهديد والوعيد من قبل أعداء الله ليخيفوا المؤمنين، فكان هؤلاء المرجفون إذا خرج النبي عليه الصلاة والسلام لمعركة من المعارك، أو أرسل سرية من سراياه لمحاربة أعداء الله يخرجون للمعركة وبعضهم يبقى في المدينة، فمن خرج منهم فإنه قبل أن يصل إلى المعركة ينسحب؛ ليخاف المجاهدون الصادقون، ويشيعون بأن جيش الأعداء أكثر عدداً وعدة، ولا قبل لنا بهم.
وقد فعل ذلك كبير المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول في غزوة أحد، حيث انسحب بمن كان معه، والبعض كان منافقاً والبعض الآخر كان ضعيف الإرادة والنفس، حيث فر وهو لا يعلم لماذا يفر.
فالله تهدد هؤلاء وتوعدهم، وقد قيل: إن الواو في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ [الأحزاب: ٦٠] زائدة، فتكون هذه كلها صفات لهؤلاء المنافقين، فهم الكذبة الذين يشيعون الرعب بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليفروا من المعركة وينسحبوا منها، وهم مرضى القلوب الذين يرغبون في الفحش والزنا والفساد، فهم قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين.
وقوله: ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ [الأحزاب: ٦٠] أي: من أهل المدينة ومن سكانها.
وقوله: ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٦٠] هذه اللام يقال عنها لغة ونحواً: اللام الموطئة للقسم، فيكون المعنى في الآية: أن الله يقسم بأن هؤلاء إن لم يكفوا ولم يتوبوا عن نفاقهم وفجورهم وإرجافهم وكذبهم فلنعلمنك بهم لتعرفهم واحداً واحداً، ولنسلطنك عليهم فتقتلهم وتبيد خضراءهم، أو تطردهم عن جوارك من المدينة المنورة.
وقوله: ﴿ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: ٦٠] أي: بأن يبقوا قلة لا تملك لنفسها أمراً ولا نهياً، وإنما يكونون قلة ذليلة حقيرة يمكن القضاء عليهم في كل وقت وزمن.
أو أنهم لا يبقون في جوارك إلا زمناً قليلاً ومدة قليلة، وكل ذلك تشتمله الآية في معناها.