تفسير قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال)
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢].
يخبر جل جلاله عن عظم الأمانة ومكانتها في الدنيا والآخرة، ويبين سبحانه أن هذه الأمانة تشمل كل معاني الدين، ومن الأمانة الطاعة لله ولرسوله، ومن الأمانة حفظ المال والودائع للناس، وحفظ الأعراض، وأنت أيها المسلم اؤتمنت على فرجك فلا ترتكب فاحشة، واؤتمنت على عينيك فلا تنظر بهما ما حرم الله، واؤتمنت على سمعك فلا تستمع إلى ما حرم الله، واؤتمنت على لسانك فلا تستعمله فيما حرم الله.
ومن الأمانة نشر العدل في الأرض، والسعي في الإصلاح بين الناس، وعدم الظلم والأذى، وأن يكون المؤمن أخاً لك، وأن يكون الكافر عدواً لك، لا بأس أن تصاحبه في الدنيا معروفاً، أما أن تخلص له وتقدمه وتزيل الحواجز بينك وبينه، حواجز اليهودية وحواجز النصرانية وحواجز النفاق وزوال الإسلام بينك وبينهم، فمعنى ذلك: أنك أصبحت واحداً منهم، وأنك ارتددت عن الإسلام.
الأمانة تشمل كل هذه المعاني، وقديماً قالوا: (لا إيمان لمن لا أمانة له).
فقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) أي: امتنعن ورفضن لا إباء عصيان ولا إباء مخالفة، ولكن شفقة وخوفاً أن يعجزن عن القيام بهذه الأمانة.
هذه الجمادات خلق من خلق الله، وقد تنطق وقد يكون لها إحساس، والآية تدل على ذلك، والقرآن مليء بهذا، والسنة النبوية كذلك.
من القرآن قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾ [الحج: ١٨] فيسجد لله الشجر والجبال، وهي ممن عرضت عليها الأمانة، ولا يسجد إلا من يدرك.
والله تعالى قال عن الحجارة: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤] أي: تتدحرج وتترامى، كما جرى لجبل الطور عندما سأل موسى عليه السلام الرؤية وكانت النتيجة أن الجبل دك دكاً من خشية الله وعظمته وهو جماد.
فالحجارة تدهدهت وهبطت من خشية الله.
وفي الدنيا من السيرة المتواترة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن هذا الخشب بعد أن قطع من شجره ومن غابته كان يخطب عليه رسول الله ﷺ بالمسجد النبوي، فرأى بعض أصحابه أن يصنع له منبراً صغيراً له ثلاث درجات، فصنعوا له المنبر ليسمع كل من في المسجد، وليراه كل من في المسجد، فلما ترك عليه الصلاة والسلام الجذع الذي كان يخطب عليه وصعد المنبر الجديد حن وصوت، وسمعه كل من في المسجد وهو جماد، أحس بشرف وقرب النبي عليه الصلاة والسلام وقت الخطابة عليه لسنوات مضت.
ثم أحس بعد ذلك أنه هجر وترك وأتي بغيره فبكى وهو جماد، وأي عجب في ذلك ونحن خلقنا من التراب، ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ﴾ [طه: ٥٥] نحن جزء من هذا التراب بدليل أنه عندما يموت أحدنا يعود تراباً، فيصبح جماداً كما كان، فمن أنطق الجماد وزرع فيه الروح؟ إنه الله، كذلك هذه الجمادات من السماوات ومن الأرض ومن الجبال عرضت عليها الأمانة، فالأمانة بالنسبة والجبال والأرض بحسبها، فالأرض تؤتمن على من فيها من الخلق فلا تدخلهم في بطنها قبل الموت، ولا تتزلزل بهم فلا يستقرون عليها، والسماء لا تطبق على الأرض، ولكن مع كل هذا امتنعوا شفقةً لا عصياناً ومخالفةً، شفقة وخوفاً من أن يعجزن عن القيام بهذه الأمانة.
وزعم بعض المفسرين أن هناك كلمة محذوفة كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] أي: أهل القرية.
فيكون المعنى: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وعلى أهل الأرض وعلى أهل الجبال.
هذا كلام لا يقبل ولا معنىً له، فأهل السماوات هم الملائكة، وهل عرضت الأمانة على الملائكة فرفضوا، ما كان هذا ولن يكون، وهم الذين ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
وأهل الأرض هم الإنس والجن، والله قد أرسل لنا الرسل والأنبياء وأمرنا بأوامر، فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
والجبال نحن نسكنها، فهل معناه: أن كل إنسان رفض الأمانة؟ ليس هذا صحيحاً، بل قال الله: ﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ﴾ [الأحزاب: ٧٢].