أقوال العلماء في كون الجمادات تعقل الأمر
واختلف العلماء في معنى الآية، هل هو على ظاهره، أمرت الجمادات فأجابت، أو هناك كلمة محذوفة، أو هو ضرب مثل؟ فقد قال بكل ذلك أعلام ومفسرون، وسنعرض لكلامهم لنقبل ونرد، وما لا دليل عليه لا يجوز أن يعمل به، فالذين قالوا: الأمر كان للجمادات؛ وهي قد عقلت أمر الله وليس هذا بالأمر الجديد ولا الشاذ، فقد قال تعالى في كتابه: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤].
والسماوات شيء، والأرض شيء، والجبال شيء، وهي تسبح الله، فإذاً تعقل بما أودع الله فيها من حس وعقل، ولكننا لا نفقه ذلك ولا نفهمه، حتى إننا في أنفسنا لا نفهم جميع لغاتنا ولهجاتنا، وإن تعلم أحدنا يتعلم بضع لغات، والأرض فيها مئات من اللغات.
فترى الإنسان يجتمع مع إنسان آخر وهما من أرومة واحدة، ومن أب واحد وأم واحدة، ولا يفهم أحدهما الآخر، فكيف نفهم الجمادات؟! وقال الله عن الحجارة: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤] يعني: أن الحجارة تخشى الله وتخافه وتهبط وتدهده.
وقال الله عن الجمادات: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾ [الحج: ١٨] فذكر الله الجبال والشجر والشمس والنجوم والقمر، وغير ذلك من الجمادات، ذكر أنها تسبحه سبحانه وتسجد له وتعبده وتوحده، فهي إذاً تعقل.
بل وفي دنيانا في قصة المنبر النبوي عندما حن عندما تركه النبي عليه الصلاة والسلام، فهو خشب قد قطع من شجر وهو جماد في الأصل والفرع، ومع ذلك عندما تركه عليه الصلاة والسلام شعر بذلك وحن وصوت حتى سمعه جميع من في المسجد.
والقصة صحيحة في جميع أمهات كتب السنة لم ينكرها أحد، ويبقى المعنى في الآية على ظاهره: بأن الله عرض على السماوات وعلى الأرض وعلى الجبال حمل الأمانة، عرضها عليها ولم يأمرها، فمع عظم الأمانة امتنعن عن حملها إشفاقاً وخوفاً، لا معصية ولا خلافاً.
أما من قال: إن هناك كلمة محذوفة يدل عليها المعنى، فقدرها وقال: (إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وعلى أهل الأرض وعلى أهل الجبال) نقول: هذا كلام لا يستقيم، وأعجب كيف ذكر هذا في كتب التفسير منسوباً لأعلام وأئمة، فأهل السماوات هم الملائكة، والملائكة محملون بأمانة تخصهم، ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
وأهل الأرض نحن، ونحن قد تحملنا الأمانة عن عجز منا وجهل وظلم، وأهل الجبال كذلك.
فإذاً: هذا المعنى لا يستقيم، وهي زيادة على الآية لم ترد عن صحابي فضلاً عن الله ورسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقال القفال: هو ضرب مثل.
والأمثال يضربها الله للناس، ومعناه: نحن أمرنا السماوات والأرض والجبال على عظم أجرامها وعلى ما فيها من عرض وطول وسعة، ومع ذلك عجزت عن حملها وقال لسان حالها: نحن نشفق عن أن نحمل ذلك ونعجز.
نقول: هذا التقدير لا حاجة إليه، ما دام قد ثبت قرآناً وسنةً أن الذي أنطقنا ونحن نوع من أنواع الجمادات عندما نموت، وهذه الروح المزروعة فينا هي من أمر الله، ولا يعلم كنهها إلا الله، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥] هذه الروح عندما يأخذها واهبها يعود الإنسان تراباً وجماداً كما كان، كذلك هذه الأرض أعطاها الله حساً وإدراكاً مع غيرها من الجمادات كالسماوات والجبال، فهي تدرك بما تسبح الله وتسجد له، وهذا تأكد في القرآن باليقين في غير ما آية، وتأكد في السنة المتواترة المستفيضة، فلا حاجة إلى تأويل ولا إلى زيادة كلمة.