تفسير قوله تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم)
قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [سبأ: ٩]، هؤلاء الجاحدون ليوم القيامة، المنكرون لها ولوقوعها، أفلم يروا: استفهام تقريعي توبيخي من الله لهم ولأمثالهم، فإنكار القيامة هو كفر الأولين وكفر الآخرين والمعاصرين، وهم يقولون هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ويتهمونه بالكذب، فإذا قرءوا سيرته العطرة قالوا: به مس، أو به جنون، أو به طموح، فأملى عليه طموحه والجنون القائم فيه ما ليس بواقع، صلى الله عليه وحاشاه من كل ذلك.
وها نحن نرى أن هؤلاء الكفرة المعاصرين سواء منهم اليهود والنصارى والوثنيون أو المنافقون المرتدون عن الإسلام، الذين يصفون أنفسهم بالتقدمية والإدراك، لكنهم هم الرجعيون المتأخرون الذي رجعوا لكفر أسلافهم.
ومن كان بيته من زجاج لا يضرب بيوت الناس، ومن كان بيته من فولاذ ومن صخر أصم لا يهمه هراء الكذبة وفجور من لا يعقل ولا يدرك، فجميع أنواع الكفر المعاصرة والتي سبقت لم تزد في كفرها على ما قاله الأولون، فهم رجعوا إليهم فكانوا رجعيين متأخرين، وكانوا مع ذلك في الضلال البعيد، وفي العذاب المهين.
(أفلم يروا) هؤلاء أين عقولهم؟ بل أين أبصارهم، ولكن كما قال ربنا: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨]، ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦].
((أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))، أفلا يرون فيما يعيشون؟ أمامهم الأرض والسماء، وخلفهم أرض وسماء، وبين أيديهم ومن كل جهاتهم هذه السماء العالية، بما فيها من ثوابت وكواكب مما لا يحصيه إلا الله، وهذه الأرض الثابتة بما فيها من جبال وغابات وصحار وبحار، كل هذا هم يرونه ويقيمون عليه، وينامون فيه، ويصحون عليه، ويتنقلون في شماله وجنوبه وشرقه وغربه، هل يفكر هؤلاء المنكرون للخلق، من خلق هذا؟ من أقام السموات بهذا النظام الثابت؟ من الذي أرسى هذه الأراضي وثبتها بالجبال الرواسي؟ بل أنت نفسك، ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١]، من الذي خلقك؟ من الذي أعطاك عينين للبصر؟ من الذي أعطاك أذنين للسمع؟ وإذا ثبت هذا، وهو ثابت برؤيا العين وبالحس وبالواقع، فالخلق لا يمكن أن يكون بلا خالق، ومن قدر على كل هذا، فأوجدنا من العدم، وأوجد السموات والأرض والكون من العدم، وبلا مثال سابق، فعندما يفنيه ويقضي عليه، أيعجز أن يعيد ما كان صنعه؟ ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٨ - ٧٩].
ولكن العقول ضائعة، والجنون هو القاعدة القائمة، ومن أضله الله لا يهديه أحد، لا مرب ولا داع ولا عارف ولا عالم.
هؤلاء الذين يرون السماء والأرض بين الأيدي وعن اليمين والشمال، ومن الأمام ومن الخلف، هؤلاء الذين يعيشون بين السماء والأرض، ألم يخافوا أن يخسف بهم الأرض؟ هذه الأرض التي ينكرون خالقها.
وقد خسفت بالكثيرين قبل وبعد وفي عصرنا، ومنذ سنوات خسف بإقليم من أقاليم أمريكا الجنوبية، وغيرت خريطته، وذهبت مدن وكأنها لم تكن، وغرقت في البحار، وصعدت جبال لم تكن.
قارون وقصته من الذي صنعها؟ قوم لوط في أرض فلسطين من الذي خسف بهم الأرض ودهدهها عليهم من السماء والأرض؟ فمن يقول مثل كفرهم ومثل شركهم، لا يخاف أن هذه الأرض تلفظه وترفض أن يقوم عليها وهي المسبحة الموحدة لله؟ أفلا يخاف أن يصبح في الأرض السابعة؟ وإذا لم يخف من الأرض ألم يخف من السماء ونحن نرى يومياً ما يقع منها من نيازك، وما يقع منها من صواعق، أن تقع عليه يوماً صاعقة؟ ألم يخف أن تقع عليه قطع من السماء فيصبح وكأنه لم يكن؟ ولكن الله عندما يقول هذا ويهدد ويوعد إنما رحمة منه بالعباد؛ لأنه أرسل عبده ونبيه، وخاتم أنبيائه رحمة لكل الناس، مسلمين ويهوداً ونصارى ووثنيين، فذلك الإمهال وذلك التأجيل هو رحمة من الله، كما أرسل النبي الكريم رحمة للعالمين، (إنما أنا رحمة مهداة) كما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
ومع ذلك فالله جل جلاله أجل العبد بعد أن رزقه عقلاً وبصراً وسمعاً وحساً، وأخذ يستدل عليه بالأدلة القاطعة، على الخلق والإيجاد، وعلى الدنيا والساعة الآتية، وأن هناك آخرة فيها الحساب، فيها العقاب وفيها الجنة والنار، ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [سبأ: ٩]، فالله يفعل ما يشاء، وهو القادر على ما يشاء، وإذا شاء جل جلاله أن يخسف الأرض بهؤلاء وكأنهم ما كانوا، أو يسقط عليهم قطعاً من السماء فيسحقهم سحقاً.
من الذي يعجزه؟ ومن الذي يمنعه؟ هو الذي لا يغالب، هو العزيز القهار الجبار، هو القاهر فوق عباده، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [سبأ: ٩] أي: إن في السماء والأرض، وفي الكون وما فيه من نظام ثابت، ومن حياة لا يعلمها أحد، ولا يصل إلى حقيقتها أحد لآية.
من خلقنا؟ من رزقنا؟ من الذي رزقنا هذا المنطق واللسان؟ من الذي رزقنا جميع حواسنا؟ من الذي سخر لنا السموات والأرض وما فيهما من أرزاق وخيرات ورحمات؟ هل أحد إلا الله؟ فعل ذلك بالمؤمن، وفعله بالكافر، فالمؤمن يحمد الله ويشكره في الدنيا والآخرة، والكافر يزداد بكل نعمة كفراً على كفر، ثم عندما يأخذه يأخذه ولا يفلته، لأن الله لا يهمل ولكنه يمهل، وإذا أخذ العبد أخذه أخذ عزيز مقتدر، ولله الحجة البالغة.
إن في هذه الآية لعلامة ودليلاً ظاهراً لكل عبد منيب، تائب رجاع إلى الله، مسلم مؤمن، إذا كان هؤلاء الكفار لم يروا ولم يتعظوا به، ولم يؤمنوا به، ولم يدركوا هذه الحقائق، إذا كانوا هم كذلك فليس المؤمنون كذلك، فكل تائب، وكل مؤمن، وكل منيب راجع لله في عبادته وفي عقيدته وفي نفسه يعلم هذه الآية، ويعلم أن هذا الخلق آية وعلامة على قدرة الله وعظمة الله ووحدانية الله.