تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً)
ننتقل ونحن لا نزال في سورة سبأ أو ابتدأناها من جديد إلى قصة داود وسليمان النبيين الملكين الإسرائيليين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ: ١٠ - ١١].
يقول ربنا: وكما أكرمنا محمداً بالمعجزات وبالآيات الدالات على صدقه وعلى أمانته وبما أعطيناه من فضل ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]، كذلك آتينا من سبق، آتينا داود وسليمان، ((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا))، وداود هو أبو سليمان، وكان أحد كبار أنبياء بني إسرائيل ورسلهم، وكان نبياً رسولاً ملكاً، ((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا)) تفضلنا عليه، وأكرمناه، وفضل: نكرة، أي فضل؟ وما هو هذا الفضل؟ كل ما فعله الله له، وكل ما أكرمه الله به هو فضل من الله، تفضل عليه بأن جعله نبياً وبأن جعله من قبل موحداً، وجعله رسولاً، وجعله ملكاً داعياً للحق وللهدى والصلاح، وأكرمه بمعجزات، وأكرمه بعلامات، وأكرمه بآيات كما أكرم الأنبياء السابقين واللاحقين.
وقد تفضل الله عليه وأكرمه بأنواع من الفضل، مع النبوءة والرسالة والملك، قال الله عنه: ((يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ))، نادى الله الجبال أن تسبح معه، ونادى الطير أن تسبح معه، وكان لداود صوت سبق جميع آلات الطرب، كان صوته طرباً في حد ذاته، وكان إذا ناح بتلاوة ما أنزل عليه من زبور تجد الجبال تردد عليه نياحته وأنغامه وتوحيده وتسبيحه، وتجد الطير قد تجمعت جميعها بين يديه، تسبح بتسبيحه وتنوح بنواحه، وتذكر بذكره، ((يَا جِبَالُ أَوِّبِي)) أي: سبحي، والأوب هو الرجع، أي: رجعي معه ما يقوله، ومنه الترجيع الذي في الأذان، وهو أن يرجع المؤذن الشهادتين عندما ينطق بهما.
ونحن قد ذكرنا ما قاله المفسرون من أقوال مختلفة، وأكدنا القول الحق أنه عرض عليها ذلك عرضاً، سمعته وأحسته، وللجبال من الحس ومن الحياة ما تدرك به ما تؤمر، بدليل قوله تعالى: ((يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ))، أي: من الفضل الذي أعطيناه أن نادينا الجبال إذا سبح، وإذا وحد، وإذا نزه، وإذا ذكر داود ربه أن ترجع معه تسبيحه، وترجع معه ذكره، فكان هذا مؤكداً للأول، ولا حاجة لكل تلك المعاني التي قالها من استبعد أن تتحرك الجبال وأن تعي، والله يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وهذا من ذاك.
فمن المعجزات التي آتاها الله لعبده داود أنه نادى الجبال وأوحى إليها بأن تسبح معه، وداود في مزاميره في الزبور المنزل عليه، كان له من جمال الصوت ما لا يكون لمجموع آلات الطرب، فالله جل جلاله يزيد في الخلق ما يشاء، وفسروا (يزيد في الخلق): الصوت الحسن، وهناك قراءة خارج السبعة (يزيد في الحلق).
وإحدى الشهيرات من مصر بجمال الصوت عالمياً هلكت، وكانوا يقولون: بأن حنجرتها فيها من أنواع العروق والشرايين ما لم يكن في جميع أنواع آلات الطرب، حتى إن شركة عالمية من شركات الطرب اشترت منها حلقها بعد موتها بكذا وكذا مليون، لترى ما هي الشرايين الزائدة، وتبني عليه معارفها وعلمها، ولكن هذه ماتت بسرطان الحلق، فذهبت الشرايين في حياتها، وانقطع الصوت في حياتها، وعندما ماتت كان هذا الحلق وهذه الشرايين كتلة مريضة، اختلطت بالقيح وبالصديد.
وداود عليه السلام قالوا عنه: أكثر مما قالوا عن هذه.
وهذا يرى في بعض الناس، فإذا تكلم أحدهم مجرد كلام تجد في صوته النغمة، وتجد جرساً، أما إذا تلا القرآن فتجد شيئاً عجيباً غريباً، وقد استمع نبينا عليه الصلاة والسلام يوماً إلى أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن الكريم، فلما أصبح قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، وكان أبو موسى مشهوراً بصوت إذا سمعه الطير سقط بين يديه، صوت يحمل له الإنسان والحيوان، وينصت إليه من يفهم لغته ومن لا يفهمها من الأعاجم.
وأدركت وأنا صغير بأرض الشام منشداً، عندما يتغنى بالقصائد الإلهية أو المدائح النبوية تجد الطير يتجمع من أمكنة مختلفة، ويترامى بين يديه، ولا يهابنا ولا يهاب الناس، وقد يكون أيام برد شديد بأرض الشام، ونوافذ الغرف مغلقة من شدة البرد، ولكن البلور من الخارج فتجد الطير يترامى على البلور ويدخل أحياناً يرتمي بقوة ويصرخ ويموت.
وهذا ما قاله الله لنا، وكل ما قال الله هو حق، وهذا الحق يتكرر مع الأيام والسنين والقرون، وإلى عصر الناس هذا.
((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ))، أي: كما تفضلنا عليه بأمرنا للجبال أن توحد معه، وأن تسبح معه، كذلك الطير، والألف واللام للجنس، أي: جميع أنواع الطيور، على كل أشكالها، كان داود إذا تغنى بتوحيده، وإذا رفع صوته بالتسبيح بمزاميره وبالزبور المنزل عليه تجد البهائم والطير والجبال والجمادات والمتحركات كلها تتحرك متأثرة بصوته، وتسبح معه، وهذا من المعجزات.
((وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)) الحديد معروف، جعله الله ليناً بين يديه، قالوا: كان كالعجينة.
ثم هل هذا التليين معجزة له بمجرد مسحه أو كانت له القوة في ذلك؟ قال بعض المفسرين: كانت له من القوة ما إذا مسح الحديد صنع به ما يصنع بالعجين، وأنه يأتي إلى قضبان الحديد ويلويها كما شاء، ويصنع منها ما شاء، فإن كان ذلك قوة فهي من الله، فهو الذي ألانها من أول مرة، إذاً: فهي كذلك معجزة من الله.
(أن اعمل سابغات)، ألان له الحديد ليصنع السابغات، وهي الدروع الكوامل الساترة لكل البدن، والدرع هي تلك اللبسة التي يلبسها المحارب، ويغطي بها جميع جسده من الرأس إلى القدمين، ولا يبقي إلا فتحة صغيرة في عينيه، وليس بارز العين حتى لا تضرب بسهم أو برصاص.
فالله ألان له الحديد، وأمره ((أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)) أمره وعلمه كيف يصنعها، والسرد: هو نسجها وصنعها، يقال لدروع الحرب واللأمة: سراد، وأصل السرد: التتابع، وفي المغرب نقول للمعيد: سارد، أي: يسرد الكلام بعضاً بعد بعض ما دام يؤمر بذلك.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (لم يكن حديث رسول الله ﷺ كحديثكم سرداً)، أي: لا يقول الكلمات متتابعة، ولا يخلط كلمة بكلمة بحيث يضيع بعض كلامه، ولكنه كان عليه الصلاة والسلام كما وصف أنس بن مالك، وكما وصف غيره من الصحابة إذا قال كلمته أعادها ثلاثاً لتفهم عنه، وإذا قالها تأنى بها تأنياً، حتى إذا أراد العاد أن يعد الحروف التي ينطق بها لعدها، ومع الفصاحة والبلاغة أوتي جوامع الكلم، فكان سيد البلغاء وسيد الفصحاء.
((أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ)) أي: اصنع سابغات، وأسبغ الوضوء أي: أتمه ولم يترك عضواً بدون وضوء، وأسبغ الله عليه النعمة أي: أتمها.
فسابغات: أي: دروع كوامل.
((وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)) أي: عندما تصنع جرساً وتدخل حلقة في حلقة قدر في السرد، أي: لا تصغر المسمار، فتتقلقل حلقة داخل مسمار، وربما تتفكك تلك الحلقات، ولا تغلظها فتكسر الحلقة، وبالتالي تنكسر الدرع، فلا تصون ولا تحصن المقاتل والمدرع.
قالوا: إن داود كان من عادته -وهذه العادة كان يفعلها عمر أيضاً رضي الله عنه- يخرج ليلاً فيتحين الرجال الذين لا يعرفون داود، فيسألهم كيف داود بينكم؟ فقد كان حاكماً وكان مع حكمه نبياً، فكانوا يصفونه بالخير ويثنون عليه، وجاءه ملك في صورة إنسان فسأله: كيف داود واليكم بينكم؟ قال: نعم الرجل، لو استغنى عن العيش ببيت مال المسلمين، وإذا بداود يفزع فيسأل ربه أن يعلمه صنعة يعيش عليها، فعلمه صنع الدروع، قالوا: كان يصنع الدرع في يوم وليلة، ويبيعه بستة آلاف، وهذه قد تكون من الإسرائيليات، وقد يكون لها أصل، فيأكل الثلث ويتصدق بالثلث، ويضع الثلث في بيت المال، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري ومسلم: (خير طعام الرجل ما كان من صنع يده، وكان داود يعيش بصنع يده)، والصنعة كانت الميزة الفارقة بين العلماء قديماً وحديثاً، وأدركنا شيوخنا في أرض المغرب وأرض الشام فيهم الخياط وفيهم المزارع، وفيهم الحداد، وفيهم وفيهم، فيعيشون على كسب أيديهم، لذا استطاعوا أن يعيشوا بلا رفاهية ولم يأخذوا من بيت المال، فقد يكون خليطاً من حلال وحرام، ولم يأخذوا الهدايا ولا الصدقات.
وهكذا كان علماؤنا في سلفنا الصالح وشيوخنا، وإن كان الخير لم ينقطع إلى يوم القيامة، ولا يزال الصالحون يعتمدون على صنعة أيديهم فيعيشون بها مع الزهد والورع.
لقد كان داود كما كان ولده سليمان لا يشبعان إذا أكلا قط، وهكذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام، بل كان نبينا في ذلك القدوة والأسوة والمثال العالي، وكان يأمر الناس بما هو أصح لأبدانهم وأحسن لدينهم، فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: (يكفي ابن آدم أن يأكل لقيمات، فإن كان ولا بد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس).
وكان يقول: (ارفع يدك من الطعام وأنت تشتهيه) أي: لا تشبع، ولا تستكمل شهوتك، لأن المعدة ما دامت تشتهي فمعناه أنك صحيح، فإذا أملأتها يوشك أن تمرض بالتخمة، وقد مات الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك بالتخمة، وغيره كذلك.
وكان الطبيب العربي الحارث بن كلدة يقول: المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء.
والمعدة تكفيها لقيمات لقيام الحياة، وقلة الطعام أصح للبدن، وأحد للذهن، وأما التخمة فإنها تبلد الذهن، وتكثر النوم، وتمرض الأعضاء، وتفسد المعدة مع الأيام، وقلما تشفى من القرحة، نسأل الله السلامة.
وقوله تعالى: ((وَاعْمَلُوا صَالِحًا)