تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)
قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [سبأ: ١٢].
أي: كما سخرنا الجبال لوالده تسبّح معه، وكما آتينا داود تسبيح الطير، وألنّا له الحديد، وعلمناه صنعة اللبوس، فكذلك ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ)) أي: آتينا سليمان الريح وسخرناها له.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ سخر له الريح فكان يضع على الريح بساطاً، وأخشاباً تحمله وتحمل جميع جنده، وكانت الغدوة الواحدة عندما يطير ببساطه يقطع فيها ما يُقطع على الدواب مدة شهر، والغدوة: الصباح، والرواح: المساء، وكان يقطع في رواح واحد ما يقطعه الراكب وما تقطعه الدواب في مسافة الشهر، وهذا نحن نفعله اليوم.
وهذا يؤكد ما قاله أحد كبار العارفين من أصحاب الرقائق والآداب والمعرفة قال: كل ما ذُكر في القرآن معجزة لا تنتهي الدنيا حتى تُصبح شيئاً عادياً في متناول كل الناس، قال هذا ولم يستدل، ولكن كان ذلك من بديع معرفته بالله ونظره البعيد.
فآخر الأنبياء قد مات عليه الصلاة والسلام ورسالته لا تزال قائمة، وهو رسولنا كما كان رسول من قبلنا، وهو رسول من بعدنا، فالقرآن أُنزل عليه وأُمر به كل من معه وكل من يأتي بعده إلى يوم القيامة، فعندما يقول ربنا: يا أيها الناس! فنحن من المخاطبين بيا أيها الناس، وإذا قال ربنا: يا أيها الذين آمنوا! فنحن من المخاطبين بذلك، ومن هنا كان سلفنا من مفسري كتاب الله يقولون: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأعرها أذنك، فأنت المخاطب، فانظر ماذا يقول لك ربك.
والمعجزات قد انتهت وبقيت الكرامات، لكن الكرامة لا يُتحدى بها، والمعجزة للتحدي، والتحدي لم تعد له حاجة.
فقال هذا العارف: لا تنتهي الدنيا حتى يصبح كل ما مضى من معجزة شيئاً عادياً، وبساط سليمان منها، فنحن نسافر اليوم بأسرع من بساط سليمان، وأكثر الطيران اليوم عند من لم يؤمن بالله، وإن كان المخترع للطيران مسلم عربي وهو عباس بن فرناس من الأندلس، حيث صنع لنفسه جناحين كالطائر، ودرّب نفسه على ذلك زمناً إلى أن طار وحلّق وقطع مسافة، وحاول النزول فعجز؛ لأنه فكر في أجنحته وفي صعوده ولم يفكر في هبوطه، والطائر له ذنب يساعده على الهبوط، ولذلك تجد جميع الطائرات فيها ما يسمى بالمؤخرة كذنب الطائر، وهو يساعد الطائرة على النزول، ومقاومة ضغط الرياح والعواصف، فلما حاول النزول لم يستطع، فبقي يطير إلى أن عجز ووقع، وقبل أن يموت قال: غفلت عن حكمة وجود الذيل للطائر، وعندما مات لم يتشجعوا لأن يتابعوا عمله، وهابوا الموت ثم عادوا يفكرون الآن في صنعه، ويوشك أن نفاجأ به يوماً، وعندها سنحتاج أن نعمل أبواباً في الأسطح؛ حتى لا ينزل علينا طائر الإنسان، فهذا الطيران الذي كان بالنسبة لسليمان معجزة وذُكر في القرآن معجزة أتى هذا العصر ولم يبق معجزة، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ﴾ [فصلت: ٥٣]، وربنا قال هذا منذ ١٤٠٠ سنة، ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣]، والطيارة صنعها الإنسان نعم، ولكن من الذي أعطى الإنسان هذا العقل ليصنع هذه الطائرة؟ فلو فقد صانع الطائرة أو سائقها عقله والطائرة تطير لذهبت الطائرة بجميع من فيها، وهم لم يعطوه عقلاً احتياطياً حتى إذا ذهب عقله استعمل العقل الثاني، وهيهات، فلم يصنع هذا إلا الصانع الأول واهب الحياة والجسد وجميع حواس الجسد.
ومن المعجزات التي ذكرها القرآن قصة بلقيس عندما قال أحد الجن لسليمان: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ [النمل: ٣٩]، وقال الله عن الثاني: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٤٠] أي: أنا آتيك بعرشها قبل أن يرتد أهداب عينيك عاليها لسافلها، فكان العرش موجوداً في فلسطين في القدس وكانت بلقيس في صنعاء في اليمن، وبينهما آلاف الكيلو مترات، والآن هذه الصواريخ التي وصلت القمر تقطع الثلاثين والأربعين ألف كيلو متر في ثانية وقد فعلت، والطيران منذ اكتشف وأدركناه كان أشبه بجرادة، ثم تطور إلى أن وصل الآن إلى ما يسمى بطائرة كونكورد التي تقطع ما بين المشرق والمغرب في ثلاث ساعات، والقرآن كله معجزات في أخباره وأنبائه، والسنة النبوية أوسع؛ لأنها هي البيان والشرح.
إن الصحابة آمنوا على معجزات شاهدوها وعاصروها، وآمنوا بما يأتي تصديقاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن كذلك، فقد أدركنا في حياتنا معجزات ذكرها القرآن وتحققت في أيامنا، فآمنا بها شهوداً وحضوراً ومعاصرة، وآمنا بالمعجزات السابقة التي وردت عن سلفنا إلى التابعين إلى الصحابة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والله قال عن قبل يوم القيامة: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ [يونس: ٢٤]، أي: إذا بها بعد ذلك تُصبح حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كالزرع حين يُحصد وكأنها لم تكن؛ فأخبر عن الدنيا أهلها سيخدمونها وسيكونون عبيداً لها ويحرصون على أن يزخرفوها حتى يظنوا أنهم قدروا عليها، ونسمع اليوم الكثير من كلام جبابرة الأرض وطغاتها من الكفرة من الحكام وخاصة ممن يسمونهم الدولتين العظيمتين من أنواع الجبروت، فهذا يهدد هذا ويقول: عندي من الأسلحة ما أستطيع أن آتي لقارتك ودولتك وأمحوها من الوجود، وتقول الدولة الأخرى مثل ذلك؛ وهذا صحيح، ونحن لا نكذبهم، فقد اخترعوا من أنواع السلاح والتدمير والبلاء ما نخافه، وما يكاد يجف معه الريق في حلوقنا، ومع ذلك فلن يقيموا هم الساعة، وإنما الله سيقيمها، وسيرجع سلاحهم عليهم، والمسلمون بعد ذلك عليهم أن يأخذوا هذه الدروس من الذل والهوان والغلبة؛ لأنهم ابتعدوا عن الله وفروا عن كتابه وجعلوا القرآن وراءهم ظهرياً، تركوا محمداً ﷺ وصحبه، وذهبوا لمن يسمونهم: فلاسفة القادة، وعندما نقرأ سيرة أحد هؤلاء في هذا العصر نجدها كلها فساد وفجور وسفك للدماء، وفي برلماناتهم وندواتهم يُعلنون مُبيحين أقبح وأخس أنواع الفواحش، فقد أباحوا اللواط وأصبح قانوناً، وأباحوا تعدد الأزواج للزوجة الواحدة وأصبح قانوناً، وأباحوا ما لا يكاد يخطر بالبال، وتحللوا تحللاً لم يسبق لا في روما قديماً ولا فيمن تحلل من تلك الشعوب التي أصبحت في أمس الدابر، والتي مقتها الله عندما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نظر الله إلى الأرض شرقها وغربها فلعن هؤلاء وهؤلاء إلا بقايا من أهل الكتاب) ثم أكرم من أكرمه بالإيمان بالله وبنبينا عليه الصلاة والسلام، فإذا بالأرض تتبدل غير الأرض، وإذا بأصحاب محمد ﷺ من المهاجرين والأنصار يفتح الله لهم البلاد خلال خمسين عاماً من أقصى الهند إلى أقصى بلاد الغرب في الأندلس والبرتغال والجزء الكبير من فرنسا وأوروبا والصين، فكانوا أئمة الناس ومعلميهم وسادتهم وناشري العدل بينهم، ولكن جاء من بعدهم كما قال الله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾ [مريم: ٥٩]، فأنذرهم الله بالتسويف البعيد فقال: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: ٥٩] ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكما أريتنا يا ربنا ويا خالقنا قدرتك فأرنا عفوك، اللهم حوالينا ولا علينا.
قال الله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ [سبأ: ١٢]، والقطر: النحاس، أسال الله له عيناً من نحاس تجري كما تجري المياه في العيون والأنهار، قال تعالى: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ [سبأ: ١٢] فجعل للنحاس عيناً سالت وجرت كما تجري عيون الماء، وأخذ يصنع منها ما سخّر له الله به الجن، فأخذوا يصنعون له ما قاله الله: ((وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ))، أي: من الجن، ((عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ)) فقد سخّر له الرياح فكانت تطير به وبجنوده، وسخّر له الجن فكانوا خدماً وجنداً له، وتحت قهره وسلطانه وإذلاله، وكلّف الله ملكاً بيده عصاً من نار يضرب أي جن من هؤلاء الجن يعصي أمر سليمان بتلك العصا فيحترق، وذاك معنى قوله تعالى: ((وَمَنْ يَزِغْ))، أي: ومن يمل ويعصي ويخالف، ((نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ)) أي: يذقه من النار المتسعرة الملتهبة الحارقة.