تفسير قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل)
قال الله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [سبأ: ١٢].
الآية متعلقة بما أكرم الله به آل داود، وقد مضى بعض ذلك في إكرام سليمان به، وأن الله سخّر له الريح تطير به وتحمل الأخشاب والسجاد فيما كان في الأصل يسافر إليه شهراً مشياً على الأقدام أو على البهائم أو على الدواب، فسُخّر ذلك لسليمان في ساعة، وقد مضى كل ذلك فكانت تطير به السجادة أو ما يصنعه من أخشاب في الهواء هو وجنوده وأتباعه ومن يرغب فيهم، ويقطع في ساعة ما تقطعه الدواب في شهر، فيقطعه بغدوة صباح أو بروحة مساء، وأسال الله وأذاب له عين القطر -أي: عين النحاس-، فكان يصنع منه ما يشاء، وسخّر الله له الجن تعمل بإذن ربه بين يديه ما يشاء، ومن يحد عن أمر الله ويخرج عن طاعة سليمان يذقه الله من عذاب السعير، أي: يعذّبه عذاباً متسعّراً ملتهباً مهيناً أليماً.
قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)) كانت الجن التي سخّرها الله تعالى لسليمان يعملون ويصنعون ما يشاء، ويبنون له القصور، ويصنعون له البساتين، ويزرعون فيها ما يشاء من أشجار وثمار وحبوب، وقد نص الله تعالى على ما هو أكثر من ذلك جهداً، فقال: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ))، جمع محراب، والمحراب: صدر المنزل والقصر والمسجد، وهو غرفة يُصعد لها بدرج كالصالون باعتبار الناس اليوم واصطلاحهم، فكانوا يبنون له معابد وقصور ومساجد وما يشاء، ويستخدمون في قطع الحجارة، ويعملون له ذلك مرغمين، وكلّف الله ملكاً يُعاقب كل جني خرج عن أمر سليمان، فيضربه بعصاً من نار فتحرقه.
قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ)) أي: لسليمان، ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ))، جمع تمثال، والتماثيل: الصور، فكانوا يصنعون له صوراً من أخشاب ومن نحاس ومن أي مادة شاءها سليمان، وكانوا يصنعون صور الأنبياء والصالحين في المساجد؛ ليكون ذلك عندهم أدعى للعبادة، وكان هذا جائزاً في دين سليمان، ثم بعد ذلك جاءوا إلى هذه الصور والتماثيل فعبدوها وجعلوها شركاء لله وأنداداً، فجاء الإسلام فحرّم ذلك تحريماً باتاً قاطعاً، ولعن النبي ﷺ من يصنع ذلك، وفي حديث أم حبيبة وكانت في الحبشة مهاجرة مع زوجها الذي ارتد عبيد الله بن جحش ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت له: يا رسول الله! تركت الناس في الحبشة يصنعون صوراً في معابدهم، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (أولئك شرار الخلق) فلعنهم عليه الصلاة والسلام وقال: (إنهم يوم القيامة يقال لهم أحيوا هذه الصور) وما هم بمحييها، فهم أعجز من ذلك وأضعف، وإنما أُذن بالرقم في الثوب، وهو ما يسمى اليوم رحلاً، وما سوى ذلك ممنوع غير مأذون به بحال من الأحوال.
والجفان: جمع جفنة، والجفنة: القصعة، فكانوا يصنعون له القصعة من الطعام تكفي ألف آكل وألف ضيف، ((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)) جمع جابية، والجابية هي: الحوض الذي يملأ بالماء أو السفرة الواسعة في الأرض، وقد كان لسليمان جفان وقصاع يحيط بها ألف آكل، يجمع عليها جنوده وضيوفه وأهل البلد إن شاء، وكان يصنع هذا الجن الذين سخّرهم الله لسليمان وجعلهم له عبيداً يصنعون له ما يشاء، قال تعالى: ((مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ)) جمع جفنة أي: قصعة، ((كَالْجَوَابِ)) جمع جابية وهي: الحفرة والحوض الذي يسع من الماء ما عسى أن يسع، ((وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)) قدور: جمع قدر، وهي ما يطبخ فيه الطعام، راسيات: ثابتات في الأرض، وكانوا يصعدون إليها بسلالم ويضعون فيها المئات من الشياه والعشرات من الإبل ومن البقر، ويضعوا فيها من الطعام من أشكاله وألوانه، وكانت راسيات ثابتات، بحيث لا يُخاف عليها أن تميل أو تنكسر، كل هذا كان يصنعه الجن لسليمان، كما قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) يقول الله لهم: اعملوا وأطيعوا ربكم واعبدوه واتقوه واعملوا الصالحات، ودعوا ما سوى ذلك من الباطل ومن الفساد ومما لا يليق، قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) أي: اعملوا يا آل داود شكراً، وشكراً مصدر، أي: اشكروا الله شكراً، فهو مفعول مطلق منصوب على المفعولية المطلقة، أي: اشكروا الله في عملكم وفي أقوالكم، والشكر كما يكون بالأركان يكون باللسان، فعندما أكرم الله داود بما أكرمه به وأكرم سليمان بملك لا ينبغي لأحد من بعده قال لهم: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ)) وآل داود: داود وسليمان وأزواجهما وأولادهما، وفي الحديث: (إن داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)، وقالوا: كان سليمان يقسم العبادة بينه وبين آله بحيث لا يوجد وقت إلا وأحدهم مصلياً، البعض في النهار والبعض في الليل، ولا ينقطعون عن ذلك البتة، فكان لا تريد أن ترى داود وسليمان وقومهما في العبادة وفي الصلاة وفي الطاعة إلا وجدتهما كذلك.
قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) والشكر يكون بالعمل بالأركان ويكون باللسان فمن صلى أو صام أو زكى أو عمل الصالحات فعبادته عملية، ومن شكر ربه وحمده جل جلاله بلسانه يكون كذلك شاكراً، والشكر فرض على كل مسلم، إذاً الشكر هنا العبادة، قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) أي: اعملوا الطاعة، والشكر منصوب على أنه مفعول مطلق، أي: اشكروا الله شكراً بالدوام على العبادة وعلى الصلاح والتقى والصلاة لله والعبادة له في جميع الأحوال.
قال تعالى: ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) أي: إن الناس في العبادة قلة، كما قال تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة: ١٣ - ١٤] وقد سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهم اجعلني من القليل، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين! دعوت الله أن أكون من تلك القلة والثلة التي يقول عنها الله تعالى: ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ))، فرجوته أن يجعلني من هذه القلة الشاكرة العابدة، فقال عمر: كل الناس أعلم منك يا عمر! وهذا هضم للنفس وتواضع منه بأن القليل الذي قالها هذا لم يفهم ويعرف معناها.