تفسير قوله تعالى: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب)
قال الله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣٠ - ٣٣].
حاضرهم بمحاضرة وأعطاهم درساً، فوقفوا مندهشين: متى كان الأطفال في المهد يتكلمون؟ ففي هذه الآيات رد على اليهود الذين اتهموا أمه بالزنا، وقالوا عنه: هو ابن يوسف النجار، كذبوا وأفكوا لعنات الله عليهم تترى، وكذب النصارى عندما زعموا أنه الإله، وأنه الرب، وأنه ابن إله، وأنه ثالث ثلاثة، فكذبوا وفجروا، عليهم كذلك لعنات الله تترى.
فكان أول ما قال من الدرس الذي أعلنه بين المحبين والمبغضين، وبين المؤمنين والكافرين أن قرر حقيقة من الحقائق: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم: ٣٠] فرغم ما رأيتم مني وما سترون بعد، فأنا عبد لله وخلق من خلقه، أرجو رحمته ومغفرته، وأعوذ من نقمته وعذابه.
قال تعالى: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ [مريم: ٣٠] أي: علمه التوراة، ومن هنا يقول النصارى: العهد القديم والعهد الجديد، ويعنون بالعهد القديم التوراة، وبالعهد الجديد الإنجيل، فهم يهود أولاً، ثم زادوا إفكاً وأكاذيب في الإنجيل عندما حرفوه وبدلوه وغيروه عما أنزل عليه.
فقوله: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ [مريم: ٣٠] أي: آتاني التوراة وأنا في هذا العمر، وعلمني وأقرأني وفهمني إياه.
قوله: ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: ٣٠] أي: جعله نبياً وهو لا يزال طفلاً، ولا يتكلم بهذا إلا الأنبياء، ولا يتكلم الأطفال بهذه اللغة، فتلك معجزة وعلامة وآية من آيات الله.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ [مريم: ٣١] أي: جعله مبارك الطلعة، ومباركاً في بيته وقومه، ومباركاً في السماء وعند النزول إلى الأرض.
قال تعالى: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ [مريم: ٣١] أي: أمره الله وأكد عليه في الوصية بأن يصلي لله صلاة كانت من شريعته، أي: أوصاه بالطاعة والعبادة والتهجد والسجود والركوع والابتهال إلى الله.
﴿وَالزَّكَاةِ﴾ [مريم: ٣١] أي: أوصاه أن يزكي من ماله وقوته وقدرته، والزكاة: التنمية في كل شيء، فتكون الزكاة في المال والمواد، وتكون في المعاني كالشجاعة والنبل والغيرة والكفاح وكل ما يتعلق بذلك، فالآية تشمل كل هذه المعاني.
قال تعالى: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣١] أي: أوصاه ما دام حياً أن يصلي لله، وأن يزكي لله، ولا ينقطع عن ذلك مدة حياته، كما قال الله لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩]، واليقين: هو الموت، أي: كن يا محمد! عابداً صالحاً زاهداً آمراً بالمعروف نهاءً عن المنكر، ودم على ذلك إلى أن يأتيك الموت.
قال تعالى: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [مريم: ٣٢] أوصاه بأن يكون براً بأمه لا يعصيها في معروف، بل يحسن معها القول والعمل والأدب.
قال تعالى: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [مريم: ٣٢] أي: لم يجعلني من جبابرة الأرض: أقتل عند الغضب، وآخذ المال عند الغضب، وأعتدي على أموال الناس ونسائهم وأرزاقهم، فلم يجعلني جباراً شقياً، ولا شك أن كل جبار شقي، والشقي: هو البعيد عن الرحمة، السيئ الفاسد الظالم الجائر، وأنبياء الله قد أكرمهم الله من ذلك.
قال تعالى: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣٣] قال ما بلغه الله أن يقوله بأن السلام والأمان عليه يوم ولادته، إذاً: فعيسى ليس رباً، فالرب لا يولد، وهو القديم بلا بداية الآخر بلا نهاية، أما عيسى فقد كانت له بداية وستكون له نهاية.
فقوله: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ﴾ [مريم: ٣٣] أي: الأمان واليمن والسلامة من وسواس الشيطان وظلم الإنسان والفساد الحاصل بينهم، وسيموت كذلك، والإله لا يموت، فهذا كله مما يؤكد أنه ليس برب كما زعم النصارى، وإنما هو عبد لله ونبي رسول يولد ويموت، ويسلم كذلك من العذاب والنقمة والغضب.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣٣] أي: ويوم البعث عندما يحيا مرة ثانية عليه الأمان من الله، والأمان من الغضب واللعنة ودخول النار، فهو آمن من كل ذلك، فالله يرحمه ويرضى عنه ويدخله الجنة، ويكرمه بما يكرم به الأنبياء والمرسلين.


الصفحة التالية
Icon