تفسير قوله تعالى: (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة)
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ [سبأ: ٢١].
يقول الله: لم يكن لإبليس والشيطان سلطان على العباد، أي: استيلاء وتسلط، ولكن الله سلّطه اختباراً وابتلاء؛ ليعلم من يؤمن بالآخرة، أي: من كان مؤمناً بالله ورسله واليوم الآخر، وبما أوجب الله ورسوله من الإيمان به، ثم الإيمان بالكتب وبالقدر خيره وشره وبجميع العقائد الإسلامية، فالله لم يجعل للشيطان سبيلاً ولم يجعل له استيلاء وتسلطاً إلا ليعلم علم ظهور ووقوف، أما العلم السابق في الأزل -علم الغيب- فقد قدّر الله ذلك قبل أن يخلق الكون وقبل أن يخلق العوالم بألفي عام؛ ولكن العلم هنا علم الظهور والوقوف، والله يعلم ذلك قبل أن يكون وكيف سيكون، فهو ابتلاء من الله لهؤلاء، فصبر من صبر على البلاء وانتصر على الشيطان، وأبى إلا أن يكون مطيعاً لله ولرسوله وأن يكون من حزب الله، فآمن بالله ورسله والآخرة فلم يكن للشيطان عليه سبيل، فإن وسوس له ساعة من الزمن سرعان ما يعود للتوبة وللاستغفار، يقول الله: ((إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ)) أي: ليظهر حقيقة دين المؤمن باليوم الآخر، وحقيقة دين الكافر الذي هو في شك من الآخرة ولا يؤمن بها حقيقة واقعة، ولا يؤمن بالله وحده، ولا بالكتاب كتاباً من الله، ولا يؤمن بمحمد ﷺ رسولاً لله وخاتماً فابتلي بالشيطان ووسواسه فلم يصبر على ذلك وسرعان ما تهدم وسقط، وعند الامتحان يُعز المر أو يُهان، وقد امتُحن فرسب ولم ينجح.
قوله: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ [سبأ: ٢١] أي: وربك الله على كل شيء رقيب، يحفظ المؤمن الذي يسعى لتطهير قلبه، فإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ فإذا كان الله في قلبه عقيدة وإيمان ثبت وانتصر على إبليس، وإن كان مرتاباً شاكاً متردداً متزعزعاً بعقيدته رسب وخسر وخاب وأصبح ممن صدّق إبليس ظنه فيه، فالله رقيب على الخلق يعلم الصالح من المفسد، ويحسن إلى الصالح، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨].
قال الإمام الحسن البصري: لم يكن للشيطان سلطان ولا قوة، ولا ضربهم بعصا ولا أجبرهم بمال ولا ألزمهم بسلطان، ولكنه منّاهم ووعدهم وأغراهم بالنزوات والشهوات فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين، فلم يكن له عليهم في الأصل قوة ولا سلطان يجبرهم ويلزمهم بالكفر بالله، ولكن أنفسهم أضاعوا وأنفسهم ظلموا فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة.


الصفحة التالية
Icon