تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً)
قال ربنا: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠].
من المعلوم أنه كان ولا يزال بين البشر من يعبد الملائكة ويقولون عنهم بنات الله، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.
فيوم القيامة يسأل الله هؤلاء المعبودين ذوي الروح والخلق والحياة والوجود، يسأل الأنبياء ويسأل الملائكة ممن عبدوا تبكيتاً لهؤلاء الذين كانوا يعبدونهم، وذلك حين يجمع العابدين والمعبودين يوم القيامة، فيقول ربنا للملائكة: ﴿أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠]، أي: أهؤلاء كانوا في دار الدنيا يعبدونكم ويجعلونكم آلهة تحيون وتميتون وتخلقون وترزقون؟! كما سأل الله كذلك عيسى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: ١١٦] أي: أن هذا تكذيب وتبكيت للنصارى الذين اتخذوا عيسى إلهاً، والذين اتخذوه ابن إله، والذين عبدوه مع الله ومن دون الله.
فيقول عيسى: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ [المائدة: ١١٧].
والأنبياء والرسل جميعاً دعوتهم واحدة ورسالتهم واحدة، فكلهم جاء يقول للجن والإنس: قولوا لا إله إلا الله، واعبدوا الله وحده، واكفروا بالأوثان، واكفروا بالأصنام، واكفروا بكل معبود سوى الله جل جلاله.
كذلك سأل الملائكة هاهنا: ﴿أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠] أي: أهؤلاء الذين اتخذوكم آلهة وعبدوكم من دون الله؟ فأجاب الملائكة كما أجاب عيسى فقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ [سبأ: ٤١] أي: ننزه ونعظم ونبجل ونخصك بالعبادة وحدك، سبحانك أن يعبد معك أحد، فنحن وهم وكل من خلقت سيأتي لك عبداً، فأنت الموجد له من العدم، وأنت الرازق له، وأنت الذي أحييته ثم أمته ثم أحييته تارة أخرى، ﴿سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبأ: ٤١].
ومن المعلوم أن طائفة تعبد الجن وطائفة تعبد الملائكة، أي: هؤلاء الذين عبدوا الملائكة عبدوهم لأمر الجن لهم، الجن يوسوسون للإنسان ليضلوه، وقد تعهدوا بذلك؛ ولذلك حذر الله بني آدم من أن يثقوا بالشيطان ووساوسه.
وأضلهم الجن ووسوسوا إليهم بعبادة الملائكة، فهم عبدوا الجن أي أطاعوهم بعبادة الملائكة، قالوا: ((بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ)) أي: يطيعون الجن بعبادتنا، فنحن لم نأمرهم ولم نقبل ذلك منهم، ولم يخطر لنا هذا ببال، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون.
فأكثر هؤلاء الوثنيين المشركين كانوا مؤمنين بالجن، والإيمان بالجن طاعتهم وتحريض الناس على الكفر، تحريض الخلق على الشرك بالله، فتبرأ الملائكة منهم، كما تبرأ عيسى ممن كان يعبده من النصارى.
وحكمة ذلك أن هؤلاء الذين زعموا ما زعموا قد حكم الله بينهم بالعدل وجمعهم جميعاً، فسأل هؤلاء وهؤلاء، فقال الملائكة وقال عيسى وقال المعبودون من البشر: معاذ الله يا ربنا، فإننا نعظمك وننزهك ونجلك عن أن يكون هذا، إنما عبدوا الجن وأطاعوا وساوسهم وإغراءاتهم وخضعوا لهم، ما كان لنا أن نفعل ذلك ولا أن نقوله، ولا أن ندعي لأنفسنا ما ليس لنا بحق.