تفسير قوله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة)
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٤٦].
أي: قل لهم يا محمد: ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٤٦].
رجع الله لعقولهم ولأذهانهم ولفهومهم، ولم يطلب منهم أن يرجعوا للقرآن أو لطاعة محمد بلا منطق ولا عقل ولا برهان.
قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ [سبأ: ٤٦].
أي: إنما آمركم وأنصحكم وأدعوكم إلى خصلة واحدة فقط، وهي (أَنْ تَقُومُوا) أي: تكلفوا أنفسكم بأن تفكروا وأن تنصفوا من أنفسكم.
﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ: ٤٦] أي اعقدوا اجتماعات ومؤتمرات وندوات، وتفكروا اثنين اثنين وواحداً واحداً، جماعة جماعة وأفراداً أفراداً، فكروا وقولوا لأنفسكم: هذا الذي أتى به محمد الذي عرفنا ولادته ونشأته وعشيرته وأجداده منذ عدنان إلى عبد مناف إلى عبد المطلب إلى عبد الله إليه، وعاش بيننا أربعين سنة ونحن نقول: إنه ما كذب كذبة قط! مر عليه الصلاة والسلام عندما أمره الله بأن ينذر عشيرته الأقربين، فوقف على الصفا ونادى: يا صباحاه! يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف، فتجمعوا وحضر ممن حضر عمه أبو لهب فقال لهم: إذا قلت لكم إن خلف هذه الجبال أعداءً جاءوا ليقهروكم ويغزوكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما علمنا عليك كذباً من قبل، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
فقال له عمه أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ شتم ابن أخيه فأنزل الله فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد: ١ - ٢] وهكذا أصبح شتم أبي لهب عبادة وتلاوة إلى أبد الآباد.
ومن اللطائف أنه جاء في صحيح البخاري أن العباس عم النبي رأى أخاه أبا لهب في المنام وهو لم يسلم بعد وسأله: يا أبا لهب كيف أنت؟ قال: في محنة وفي عذاب إلا ما كان من يوم الإثنين فإني أسقى قطرة من ماء في هذه الحفيرة بين الإبهام والسبابة فأجد فيها راحة.
ولم ذلك؟ أتدرون لم؟ يوم الإثنين يوم فيه ولد ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت جاريته ثويبة وكانت قد حضرت ولادة النبي عليه الصلاة والسلام فقالت لسيدها أبي لهب: أبشرك بأنه ولد لأخيك عبد الله ولد وسموه محمداً، فأعتقها لبشارتها له بذلك.
فكان من رحمة الله له وهو كافر أن يسقى هذه القطرة من الماء جزاء ما أعتق ثويبة عندما بشرته بولادة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وهكذا ما خدم النبي ﷺ أحد بالكفر أو الإيمان إلا ويجد شيئاً، ومن ذلك عمه أبو طالب الذي نافح عنه ودافع عنه وكافح عنه، فسئل: أينفعه ذلك يوم القيامة؟ قال: (نعم.
هو في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ولولا أنا لكان في قعر جهنم).
فقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ [سبأ: ٤٦] أي: إنما آمركم وأنصحكم بخصلة واحدة ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ [سبأ: ٤٦].
أي: تفكروا في هذا الذي قلتم عنه شاعر، ساحر، كاهن، مجنون، طالب مال، طالب ملك، طالب زواج، ففكروا قليلاً متى تعلم هذا الرجل وقد جاءكم بعلم الأولين والآخرين، عاش بينكم أربعين سنة، وكان يكلمكم ويسائلكم، فتقولون له: ما علمنا عليك كذباً قط، وكنتم تلقبونه بالأمين؛ لصدقه وأمانته، أبعد أن بلغ الأربعين وتجاوز حد الشباب وحد الصبا تتهمونه بالكذب على الله؟! ثم هذا العلم الذي أتاكم به من أين تعلمه؟ وهذا الكلام البليغ الذي تحدث به عن الأمم الماضية والأمم الحاضرة والأمم الآتية وعن الخلق قبل أن يخلق وعن الآخرة بعد زوال الدنيا؛ هذه العلوم والمعاني من الذي آتاه بها؟ هل فيكم الآن أو قبل أو بعد من يعلم جزءاً من هذه المعاني؟ تفكروا هذه المعجزات التي ظهرت على يده من تكثير القليل ومكالمة الدواب له عليه الصلاة والسلام بل حتى الجمادات، هل كان هذا لواحد منكم؟ هل رأيتم ساحراً يفعل ذلك؟ وقد تهدمت الكعبة نتيجة الفيضانات يوماً وكدتم تتقاتلون بعد بنائها من يضع الحجر الأسود في مكانه، فحكمتم أول داخل، فكان الداخل محمداً صلى الله عليه وعلى آله، وإذا به يفصل بينكم ولم يستأثر عليكم، ولكن أمر كل واحد من فخد أن يحمل في طرف الثوب الذي وضع فيه الحجر، ثم وضع الحجر بيده الشريفة مكانه؛ فهذا يدل على العقل أو الجنون؟ وكل سيرته وحياته دلت على العقل وعلى الفهم وعلى الإدراك، فمن أين هذه الاتهامات؟ فكروا مجتمعين وأفراداً وليستعن بعضكم ببعض، وليستعينوا بالخلوة كل على حدة.
وفكروا أيمكن أن يكون محمد ساحراً؟ متى تعلم السحر؟ وما الذي رأيتم من السحر بين يديه؟ أهو مجنون يتكلم كلام العقلاء؟ بل كان عاقل العقلاء وكبير الفهماء وذكي الأذكياء، وليس بصاحبكم من جنة، أي ليس بالنبي الذي صاحبوه صحبة العداء وصحبة الكفر وصحبة الاتهام والشتم جنون.
﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ [سبأ: ٤٦] الله يخبر أن ما زعمتموه ليس كذلك، وهذا الذي قالوه كله يعيده اليوم الرهبان والحاخامات والمنافقون من الناس أولاد مدارسهم وأفراخ جامعاتهم.
قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٤٦].
أي: إنما جاءكم منذراً متوعداً إن بقيتم على كفركم وقد قامت الحجة عليكم، فقد كنتم تقولون من قبل: ما جاءنا من نذير، فقد جاءكم النذير وجاءكم من يرشدكم ويدعوكم إلى الله ويقودكم إلى الخير، فما اعتذاركم بعد هذا، فليس هو إلا رسولاً من الله ونذيراً بين يدي عذاب شديد، مما يكون يوم القيامة من العذاب الشديد الذي تعجز كواهل البشر عن تحمله لمن مات كافراً.


الصفحة التالية
Icon