تفسير قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)
قال تعالى: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ﴾ [سبأ: ٥٤].
أي: منعوا وجعلت هناك حيلولة وسد بينهم وبين ما يشتهون، وماذا كانوا يشتهون؟ اشتهوا أن يعودوا إلى الدنيا، وأن يؤمنوا، وأن يتوبوا، اشتهوا أن لم يكونوا ماتوا ليبقوا في ترفهم وقصورهم وكفرهم، ولكن هيهات هيهات! فإنما هي أمان تمنى بها النفس من وحي الشيطان.
قوله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾ [سبأ: ٥٤] فقد حصل لهم ما حصل للكافرين السابقين عندما كفروا ثم ماتوا وأخذوا بعد الموت، فهم يطلبون العودة لدار الدنيا ليقولوا: آمنا، فحيل بينهم وبين ذلك، ولن يقبل منهم إيمانهم ولا توبتهم، ولن يعودوا لشهواتهم التي عاشوا عليها في الدنيا.
والأشياع جمع الجمع، والجمع شيعة، والمفرد شيعي.
فمن كانوا أشباههم في الكفر في دار الدنيا ثم هلكوا وفزعوا ورعبوا بعد الموت، وقالوا: آمنا، وقد ماتوا على الكفر، اشتهوا أن يعودوا لدار الدنيا، واشتهوا أن تقبل التوبة منهم وأن يعودوا للطاعة والعبادة، فحيل بينهم وبين ذلك كما فُعل بالكافرين من قبل ممن كانوا على شكل الكافرين الحاضرين في الحياة الدنيوية ومن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة.
وكل من لم يؤمن قبل أن تبلغ الروح الحلقوم لا ينفعه إيمانه، ﴿لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: ١٥٨].
قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ﴾ [سبأ: ٥٤] أي: إنهم عاشوا على الشك، فلم يؤمنوا بالله عن يقين، ولم يؤمنوا بمحمد رسولاً وهادياً، ولم يؤمنوا بالقرآن كتاباً أوحاه الله لنبيه؛ فهم يشكون ويرتابون، والشك لا يرفع اليقين، ولكن اليقين يرفع الشك.
والإيمان يجب أن يكون إيمان تحقيق صادر عن يقين، وهؤلاء عاشوا في شك مريب، فقد كانوا في ريبة وشك، وكانوا متهمين بذلك، وألسنتهم تدل عليه وأعمالهم تؤكده، ثم ماتوا على الشك.
ومعنى ذلك أن المؤمن الشاك لا يعتبر مؤمناً وأن الكافر الشاك كافر؛ لأنه بنى إيمانه على الشك ولا يجبر إلا بيقين، ونحن عندما نقول: لا إله إلا الله، نقولها امتثالاً لأمر الله ونوقن بأدلة العقل، ونقول: من خلقني؟ من خلق هذا الكون بما فيه علواً وسفلاً؟ فبالقاطع من العقل السليم أنه لا بد من خالق، والخالق لا بد أن يكون قديماً أزلياً.
ولذلك هؤلاء الذين أضلهم الله على علم قالوا عن عيسى إنه إله، وعن مريم إنها إله، ويقولون: مريم هي صاحبة الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ثم عادوا فقالوا: اليهود قتلوا عيسى، فكيف يقتل إله ويصلب، إذاً فالذي صلبه هو أعظم منه وأكثر منه في القدرة، فليس بإله.
وقد جاء الإسلام فأعاد منا من كان ضائعاً تائهاً فثبته، وقال إن الخالق هو الله المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص؛ فمن عاش شاكاً عاش كافراً، ومن مات شاكاً مات كافراً، وهكذا حكم الله على هؤلاء، رغم ما كان فيهم من شاكين.
ولذلك علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نقول: آمنت: أي صدقت عن يقين وقطع، آمنت بالله رباً، وبالقران إماماً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوة، فمن آمن بغير الكعبة قبلة يكون ضالاً وصلاته باطلة، ومن آمن بأن إخوته المسلمين أعداء فهو ضال مضل، ومن اتخذ من اليهود والنصارى والمنافقين أحباباً فهو ضال مضل، فقد قال الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] وليس المنافق وليس النصراني وليس اليهودي داخلاً فيها، وكونه أخاً بالآدمية فجميعنا أبناء آدم وحواء، وذاك شيء لا علاقة له بالدين والإسلام، وعندما نذكر الأنساب والأحفاد نقول: آدم أبو البشر، لكن المؤمنين غير الكافرين.
وهكذا أضلوا المسلمين ونشروا في جامعاتهم وفي كتب دراستهم الكثير من الشعارات المشركة الوثنية الضالة المضلة، وإنما شعار الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] ولا يوجد إله غير الله، ولا رسول إلا محمد عليه الصلاة والسلام، ومن سبق فليسوا رسلنا، وكانوا رسل أقوامهم، ومع ذلك انتهت رسالتهم.
أما نبينا فكما خاطب الأولين خاطبنا نحن، ويخاطب الآتين إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعده ولا رسول، وكتاب الله الكريم المنزل عليه، سيبقى لكل المسلمين إلى يوم النفخ بالصور، فهو الإمام في الأحكام، والإمام في الحلال والحرام، والإمام في الحقائق، والإمام في قصص الأنبياء.
وبهذا نكون قد ختمنا سورة سبأ، حامدين الله وشاكريه، وكما أكرمنا الله، ووصلنا من بداية كتابه إلى نهاية سورة سبأ، نرجو الله تعالى ونتضرع إليه أن يعيننا على إتمامه وختمه، فضلاً منه جل جلاله، ونحن نشرع الآن في السورة التالية سورة فاطر.