تفسير قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً)
قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: ٨].
قوله: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ [فاطر: ٨].
استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، واختلف في المزين فقيل: زين له الشيطان، وقيل: زكاه له رفقاء السوء، وحسنه له الكفرة والمنافقون، فأخذ يعمل أعمالاً خارجة عن الإسلام، ومع ذلك يحسب أنه يأتي بخير، وأنه يعمل عملاً صالحاً.
قوله: ﴿سُوءُ عَمَلِهِ﴾ [فاطر: ٨]، أي: عمله الفاسد الضال: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: ٨]، هذا الذي عمل المنكرات وعمل السيئات وعمل الباطل زين له الشيطان عمله فظن أنه يفعل حسناً، ويصنع خيراً وقربة، وهكذا الكثيرون من أتباع هذه الأحزاب الضالة؛ الشيوعية والاشتراكية والماسونية والبهائية والوجودية، وكل مذهب وكل حزب وكل دين غير دين الإسلام: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، فكل ذلك باطل فاسد ضلال، وقد تجد بعضهم يجود بحياته بماله بعرضه بشرفه بكرامته في سبيل الشيطان، ويظن أنه يصنع عملاً حسناً، أين الجواب؟ ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ﴾ [فاطر: ٨].
قال مفسرو الآية: الجواب في الآية التي بعد هذه: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨]، فهناك مقدم ومؤخر، والمعنى: يا محمد هؤلاء الذين يعملون السوء، ويتبعون المذاهب الضالة، ويفعلون المنكرات والفواحش، ويبتعدون عن دين الله الحق، ونبيه الحق، وكتابه الحق، ثم يزين لهم ذلك في أنفسهم فيرونه حسناً، ويرونه جميلاً، ويرونه صواباً، أهؤلاء تحزن عليهم؟ أو تذهب نفسك عليهم حسرات؟ وحسرات: جمع حسرة، وهي الحزن الأليم الشديد الذي قد يوصل إلى الموت.
ولذا يقول الله لنبيه: لا تتعب نفسك مع هؤلاء، ولا تتحسر عليهم، ولا تحزن عليهم، وهذا كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣]، أي: لعلك مهلك نفسك ومميتها حزناً وألماً لعدم إيمان بعض قومك وأهلك وأقاربك بك، بل حتى كل من دعوتهم من العرب والعجم، إذ ليست هذه بوظيفة لك، إنما عليك البلاغ: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦]، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٢]، ولذلك يواسي الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام ويدعوه لعدم الحزن ولعدم الأسف والألم، لكون أمثال هؤلاء ممن زينت لهم أعمالهم وارتكبوا فيها الكفر والفواحش والمنكرات، فلا تحزن عليهم، ولا تتحسر لعدم إيمانهم، فلم نكلفك بالهداية، وإنما كلفت بالبلاغ، فالهداية بيد الله وليست وظيفة الرسل.
هذا أحد تفسيري قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨].
وفسر آخرون: أن الجواب مقدم: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: ٨].
قد أضاع الصواب، وابتعد عن الحق، وهذا يفهم من سياق القول، وسواء قدمنا أم أخرنا، وسواء قدرنا بعض المقدر، فالمعنى ظاهر واضح.
فيكون المعنى: هل الذي زين له عمله فرآه صواباً حسناً وهو كافر بالله غير مؤمن، أو مبتدع ضال، أيستوي هو والمؤمن الذي هو على الجادة المستقيم على السنة النبوية؟ أيستوي هو ومن جعل أسوته رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدين والصحابة السابقين الأولين: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: ١٠٠].
هؤلاء هم الذين رضي الله أعمالهم، ورضوا هم عن الله، فرضوا بجزاء الله لهم، وقبلوا قضاءه مهما كان، وإن كانت النهاية والخاتمة لخيرهم ولرحمتهم ولدخولهم الجنان.
فهذا بينه رسول الله عليه الصلاة السلام عندما تحدث عن الفرق في الأمم السابقة وأن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقه، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأن الأمة المحمدية ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، أي ممن يزعمون الإسلام ويدعونه، قال عليه الصلاة السلام (كل هذه الفرق في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ولذلك كانت دراسة السيرة النبوية والإلمام بالحياة النبوية والشمائل المحمدية فرضاً على كل إنسان، ولا يستفيد منها إلا المؤمن، لأنه يتعلم كيف يكون رسول الله عليه الصلاة السلام الأسوة له والقدوة له، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١] ثم بعد رسول الله ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: ١٠٠].
أي: ممن جاء بعد الصحابة من التابعين، ثم تابعي التابعين ومن تبعهم إلى عصرنا، إلى آبائنا وشيوخنا، إلى من وجدناه على هدى من الله في كتابه، وعلى هدى من رسول الله في سنته وكلامه، فهو على الحق، وهو الذي بمنجاة، وهو الفرقة الناجية، وهو الفئة الناجية من عذاب الله وغضب الله، وبذلك حذرنا أسلافنا من البدع والمبتدعين، ومن كل من حاول أن يحرف كلام الله وكلام رسوله، وأن يبعدنا عن حبه وعن التعلق بأذياله وعن طاعته.
فكل من دعانا إلى ذلك وهو مبتدع ضال أمرنا بالإعراض عنه.
فيكون تقدير معنى قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: ٨].
أمن كان كذلك يستوي هو ومن كان على محجة بيضاء، دليلها كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة السلام وهديه وسيرته، هل أولئك سواء؟ الجواب ظاهر ومعناه: لا سواء، هيهات هيهات، أن بينهما كما بين السماء والأرض، ما بين الضب والنون، وما بين العالم والجاهل، وما بين المؤمن والكافر.
﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: ٨]، سبق في علم الله وفي الأزل، وفي اللوح المحفوظ أن الله حين خلق الكون -كما ورد عن النبي عليه والصلاة والسلام- خلقه في ظلمة، ثم أشرقت عليه أنوار الله، ثم خلق النور، فمن أصابه من نور الله اهتدى وسجل ودون في اللوح المحفوظ من الهادين المهديين، ومن لم يصبه من ذلك النور فلا نور له، ولا هادي له، خلق في ظلام وبقي في ظلام: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾ [الأنفال: ٧٠].
(إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن)، (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).
فإذا أنطوى ضمير الإنسان وقلبه على حب الله وطاعته، وحب رسوله وطاعته، وحب المؤمنين ومؤاخاتهم والإحسان إليهم، فليعلم أن ذلك نور من الله، وأنه مهما صدر عنه من ذنوب فإنه يجدد توبته سالكاً الطريق المستقيم.
ومن كان فاسد القلب فلا يكاد يتأثر قلبه بالمقدسات من كتاب الله، وسنة رسوله، مهما فعل ومهما تحركت جوارحه فمآله إلى سوء؛ لأنه لم يكن ذا نور من إشراق الله ونور الهداية في شيء، فقد عاش في ظلام وسيبقى في ظلام إلى أن يدخل نار جهنم في ظلام.
قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: ٨]، إخبار بأن الأمر بيد الله ومشيئته، فمن لم يصبه من نور الله شيء فلا نور له وهو من الضالين.
قوله: ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: ٨]، معناه: أن من أصابه من نور الله وإشراقه، أشرقت عليه تلك الأنوار، فاستنار قلبه وضميره وعقله، وأصبح مهيأً للطاعة، وللامتثال وللعمل بما في كتاب الله، وبما في سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
قوله: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨]، أي: فلا تذهب يا محمد نفسك عليهم ضياعاً ولا تهلكها؛ لأن هؤلاء لا يستحقون ذلك، ولكن الذين هم أهل لأن تكون رءوفاً بهم حريصاً عليهم هم المؤمنون المطيعون السابقون في إيمانهم وإسلامهم: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: ٨].
إن الله عليم من هؤلاء الذي عصوا ربهم وخرجوا عن طاعته وعصوا نبيهم وخرجوا عن طاعته، وأبوا إلا الكفر والجحود والعصيان، هؤلاء الله عليم بهم وبصنعهم.


الصفحة التالية
Icon