تفسير قوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت)
قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: ٩].
هذا مثل ضربه الله، وكثيراً ما ترد الأمثال في القرآن الكريم.
يتساءل الإنسان: كيف يحيي الله الموتى؟ فقد سأل إبراهيم عليه الصلاة السلام ربه فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: ٢٦٠].
قال له: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠].
فبماذا أمره؟ ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ [البقرة: ٢٦٠].
فقام إبراهيم إلى مجموعة من الطير فذبحها، وقطع لحومها قطعة قطعة، ثم خلطها ببعضها، ثم أخذ هذه اللحوم المختلطة فوضع جزءاً منها على رأس جبل، وجزءاً على رأس جبل، وجزءاً على رأس جبل، ثم دعاها: تعال يا غراب تعال يا حمام تعال يا إوز، وإذا بالريش والأجزاء تتطاير إلى أن رجع كل جزء إلى أصله، وأصبحت هذه الطيور تطير بين يديه وتهدر.
وفي الحديث: (جاء أعرابي فقال: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى بعد أن نكون رمماً؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: ألم تر وادي أرضك ممحلاً جدباً -أي: النبات فيه قليل- ورقه قد تحات ويبس، والمياه جفت قال: نعم، قال له: ألم تر إلى المطر ينزل عليها وإذا بها تهتز وتخضر؟ قال: بلى، قال: هكذا يحيي الله الموتى).
فقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ [فاطر: ٩]، وقرئ: (الريح).
هذه الرياح التي تتحرك كما نرى تثير وتهيج السحاب حتى يتجمع السحاب، فإذا به ينزل مطراً بأمر الله وإرادته.
وقوله: ﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ [فاطر: ٩]، تكلم أولاً عن الغائب الحاضر جل جلاله، ثم قال: ﴿فَسُقْنَاهُ﴾ [فاطر: ٩]، ونسب ذلك إلى المتكلم، وكل ذلك في حق الله سواء.
﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ [فاطر: ٩]، أي: إلى أرض جدباء قاحلة قد يبست أشجارها، وتحات ورقها.
وقوله: ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [فاطر: ٩]، أي: أحيا الله بهذه السحب التي ملئت أمطاراً، ثم ساق هذه الأمطار والسحب إلى أرض ميتة قاحلة جدباء لا نبت فيها ولا ورق ولا اخضرار.
إذاً: فنحن عندما نأتي إلى أرض جدباء نرى هذه الشجرة في فصل الخريف تحات ورقها، ثم يأتي فصل الشتاء، ثم تأتي السحب بالأمطار فتنزل على هذه الأرض المجدبة، وإذا بالله تعالى يحيي هذه الأرض بعد موتها، وإذا بها تهتز فتخرج الشجرة من تحت الأرض أول مرة برعمة صغيرة، وهكذا تزداد وتزداد وتزداد إلى أن تراها شجرة كبيرة طويلة، فلا ترى رأسها حتى تطأطئ لها الرأس.
وقوله: ﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: ٩].
ورد عن النبي عليه الصلاة السلام أنه قال: (إن الإنسان إذا مات فني جميع جسده إلا عجب الذنب).
وعجب الذنب هو: قطعة في آخر سلسلة فقرات الظهر، وحجمه كحجم حبة العدس، وقد ورد عن نبي الله عليه الصلاة السلام أن عجب الذنب بمثابة البذرة التي يحيي الله الإنسان به، فيوم القيامة سينزل سبحانه أمطاراً وإذا بعجب الذنب ينبت كما ينبت النبت، وإذا بنا قيام بين يدي ربنا عراة حفاة غرلاً، لما سمعت عائشة رضي الله عنها هذا من النبي عليه الصلاة السلام قالت: (عراة يا رسول الله يرى بعضنا بعضاً؟ قال لها: يا عائشة الناس في شغل عن ذلك، كل الناس تقول: نفسي نفسي)، يعني: الناس في ذلك اليوم كما قال سبحانه: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٦].
لا أحد يفكر في أحد، كل واحد يفكر في نفسه، فلا يرى هذا عورة هذا، ولا يلتذ ولا يتمتع الإنسان في ذلك اليوم بالنظر إلى العورات، إلا المتقون الذين يدخلون الجنان عندما يكرمهم الله بالحور العين.
إذاً: يضرب الله مثلاً بالأرض الميتة عندما يحييها بالغيث، فهكذا الإنسان يكون موته كما تموت الأرض، وكما يتحات ورق الشجر، ثم يأتي الله بسحب مليئة بالأمطار فيصبها في الأرض الميتة، وإذا بها تربو وتهتز وتخضر، وتعطي من كل فاكهة زوجين.
وهذا نراه بالعين ونشعر به بالحاسة البشرية، فلم تنكر البعث بعد الموت وأنت ترى هذا؟ هل يستطيع أحد من الخلق أن يفعل هذا؟ هل يستطيع أن ينبت إنسان شيئاً لم يأذن الله نباته؟ إذا ذهب الماء وغار في الأرض فهل يستطيع إنسان أن يأتي به مرة ثانية؟ إذا ذهبت الحياة من الإنسان فهل يستطيع بشر ما أن يعطيه الحياة؟ ليس هذا إلا من عمل الله، وليس هذا إلا من خلق الله.
وهكذا هنا يقول: ﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: ٩] أي: كما أنه يحيي الأرض القاحلة بالغيث والأمطار، كذلك يحيي الإنسان وينشره بعد أن يكون قد مات.


الصفحة التالية
Icon