تفسير قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر)
﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: ٣٩].
أي: وانذرهم يا محمد! على ضلالهم وعلى فسادهم وصم آذانهم وعمي أبصارهم، ومعنى: (أنذرهم): خوفهم مما سيكون عليهم إن بقوا هكذا إلى الموت؛ لتكون حجة الله البالغة، وليكون أمر الله هو النافذ، فإذا أتوا ربهم يوم القيامة، وسألتهم الملائكة: ألم يأتكم رسول وينذركم ويبشركم؟ ألم يأمركم وينهكم؟ لم يجرؤ أحد أن يكذب، ولو كذبوا شهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بأنهم كانوا كاذبين.
ويوم الحسرة: هو يوم القيامة، يوم يتحسر المؤمنون ويتحسر الكافرون، والحسرة: هي الندم في شدته والألم في نهايته، يوم يندمون كلهم ولات حين مندم، فيندم المسلمون ويتحسرون؛ لأنهم لم يزدادوا طاعة وإيماناً وإيقاناً وعبادة.
ويتحسر الكافر؛ لأنه طالما أنذر وذكر وهو حي يرزق، وقد يكون بعضهم عمر سنين وأعواماً وقارب المائة أو تجاوزها، ولم يزدد من الله إلا بعداً، وبالأنبياء كفراً، وبكتب الله الحق إبعاداً وتزييفاً وإفساداً، وصداً للناس عنها، ففي هذا اليوم يبعثون ويعرضون على الله، ويسمى بالنسبة لهم يوم الحسرة؛ إذ يتحسرون ويندمون ويتألمون ويتوجعون، ولو أنهم انتبهوا في دار الدنيا فآمنوا بالله على الأقل رباً، وبأنبيائه عبيداً مكرمين رسلاً لكان خيراً لهم، ولكن هيهات فقد سبق السيف العذل، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
فطالما أنذرهم كتاب الله، وأنذرهم الهادي رسول الله، وأنذرهم ورثة الأنبياء العلماء العارفون بالله مثل هذا اليوم، أنذروهم عذاباً وغضباً ولعنة، وما زادهم ذلك من الله إلا بعداً.
قال تعالى: ﴿إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ﴾ [مريم: ٣٩] أي: الأمر الذي كانوا يرتابون فيه من بعث بعد الموت، وجنة ونار، فيكون قد قضي وتم وعلم أهل الجنة من أهل النار، وأهل الرحمة من أهل الغضب.
ومن هنا يزدادون حسرةً وألماً وندماً، فيمنون أنفسهم بأن العذاب إذا اشتد سيموتون ويستريحون وهيهات أن يكون لهم ذلك، بل يؤتى بكبش فيقال لأهل النار: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويقال لأهل الجنة: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم، هو الموت، فيذبح الموت، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فيزدادون بذلك حسرةً وألماً وتوجعاً.
وكما ورد في الآثار النبوية يفرح المؤمنون يوم ذاك فرحة لم يفرحوا مثلها قط، ويزداد الكافرون حسرة إلى حسرتهم، فمن في النار ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء: ٥٦]، ومن في الجنة لا يملون ولا يقنطون، فهم من درجة إلى درجة، ويتزاورون ويجتمعون ويتحدثون عن تاريخهم في الدنيا، ويبحث المؤمن عن أهله في الجنة، فإذا وجدوا أهاليهم زادوا بذلك فرحاً وشكراً لله على نعمه وآلائه.
فقوله تعالى: ﴿إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ﴾ [مريم: ٣٩] أي: إذ تم الأمر الذي كانوا فيه شاكين مرتابين، فيوم القيامة الذي أنكروه سيعيشون في واقعه، والجنة والنار التي أنكروها كذلك سيعيشون في واقعها، فبعضهم في الجنة وبعضهم في السعير.
فعندما يقضى الأمر تبدو حسرة الناس: حسرة المؤمنين أنهم لم يكونوا ازدادوا إيماناً وعبادة، وحسرة الكافرين أن لو كانوا آمنوا ولو باللسان: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨] بمعنى: لو أنهم آمنوا بالله لساناً وجناناً حتى ولو لم يعملوا فهم مؤمنون على كل حال ويطمعون، والإيمان كلٌ لا يتجزأ، فعندما يؤمن الجنان تنطق الحواس، وكل حاسة نطقها بحسبها، فعبادة اللسان بالذكر وبالتلاوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا لكل حاسة عبادة.
قال تعالى: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: ٣٩]، فقد كانوا في دار الدنيا غافلين عن هذا القضاء، غافلين عن يوم القيامة لاهين ساهين رغم كونهم سمعوا ذلك أكثر من مرة، وحضروا ذلك أكثر من مرة، ولكنهم لم يستقبلوا ذلك إلا بالاستهزاء والسخرية بأنبياء الله وبالعلماء العارفين بالله، وما زادهم ذلك إلا خسراناً وكفراناً، وهكذا إلى أن وجدوا أنفسهم قد ماتوا ثمَّ بعثوا، عاشوا في الدنيا في غفلة وهم لا يؤمنون بالله رباً ولا بأنبيائه رسلاً.


الصفحة التالية
Icon