تفسير قوله تعالى: (يولج الليل في النهار)
قال تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ [فاطر: ١٣].
يقول الله جل جلاله وقد دعانا للتفكير في أنفسنا كيف خلقنا؟ وما أصلنا؟ وكيف انتقل التراب إلى نطفة والنطفة إلى زوجين ذكر وأنثى؟ ثم عمر من عمر ومات من مات وقصر عمره، ثم هذه المياه العذبة الفرات، ثم هذه المياه المالحة الأجاج وما نستخرج منها مما نغذي به أبداننا من لحم طري، ومن حلية وزينة يتحلى بها نساؤنا في السواعد والأقدام والآذان والأعناق وما إلى ذلك، وهذه البحار التي نجوبها للتجارة نجوبها للسياحة نجوبها طلباً للعلم ومعرفة لخلق الله في كونه وفي أرضه جل جلاله وعلا مقامه، وهنا يلفت أنظارنا للزمن.
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [فاطر: ١٣]، يولج: يدخل، ويولج الليل: يدخله في النهار، ويدخل النهار في الليل، يختلفان زمناً فيطول هذا ويقصر هذا، وقد يستويان زمناً فيكون لليل ١٢ ساعة والنهار كذلك، ثم يقصر أحدهما ويصبح من ثمان ساعات إلى عشر ساعات وقد يصل إلى ١١ ساعة، ولا يتجاوز الليل والنهار ٢٤ ساعة، وإنما يزيد الليل على حساب النهار ويزيد النهار على حساب الليل، نرى النهار مشرقاً فإذا أقبل الليل مال النهار إلى الاصفرار، ثم يميل إلى العتمة وإذا بالظلام يأتي من الغرب مسرعاً حتى يدخل في النهار فيغطيه ويغمره، وعندما يلج الليل في النهار يذهب النهار، وعندما ينتهي الليل يلج النهار في الليل وإذا بالضياء منتشراً مع الفجر، فيراه الرائي يعلو قليلاً قليلاً إلى الفجر الصادق ثم أذان الصبح ثم الاصفرار إلى شروق الشمس، وللمرء أن يتساءل أين الليل إذا ذهب النهار؟ وأين النهار إذا ذهب الليل؟ من صنع ذلك؟ لو جعل الله الدنيا نهاراً دائماً لما وجدت سكينة ولا راحة، ولو كان النهار ليلاً دائماً لما استطاع المرء أن يضرب في الأرض، ولما استطعنا أن ندبر أمورنا، أو نقيم شعوبنا، أو نعمر دولنا.
وهكذا تتجلى رحمة الله بالعباد حين جعل الليل والنهار، فجعل الليل لنسكن فيه والنهار لنعمل فيه، وكل يجري إلى أجل مسمى.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ [فاطر: ١٣]، وهذه الشمس التي لا يستغني عنها كائن حي على وجه الأرض، لما لها من علاقة بالأجسام وصحتها، وبالشجر والنبات وبالمد والجزر في البحار كل ذلك من صنع الله وبديع خلقه، وهذا القمر الذي لا يستغني كذلك عنه الناس ولا النبات، وأثره على المد والجزر في البحر، وهكذا سخر الله لنا ذلك كله، جعله لصالحنا ولحياتنا كرماً منه وفضلاً جل جلاله وعز مقامه.
أفلا نتساءل: من خلق الشمس؟ من خلق القمر؟ من أولج الليل في النهار والنهار في الليل؟ من خلق الإنسان؟ من خلق هذه المياه وأنبعها من الأرض؟ وهي التي لم تنته منذ خلق الله الكون؛ لأنها إذا انتهت انتهى الإنسان وفني ومات، فقد يصبر أحدنا عن الطعام أياماً ولربما أسابيع ولا يستطيع الصبر على الماء ساعات في أيام شدة الحرارة، وهكذا لن يستغني حي عن الماء ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ﴾ [الأنبياء: ٣٠].
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [فاطر: ١٣]، فالليل يتابع النهار، والنهار يتابع الليل، والشمس تتبع القمر، والقمر يتبع الشمس وكل ذلك يجري لأجل مسمى، وهذا الأجل المسمى عند الله هو يوم القيامة يوم ينتهي النهار وينتهي الليل، وتنتهي الشمس وينتهي القمر ويعم الفناء الأرض، ويعود الكون كما كان، فكما كان في عدم سيعود إلى عدم، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧]، يبقى الله كما كان لا شيء قبله ولا شيء بعده، ثم يحيي الله الناس، فيعيد الخلق إلى الحياة للحساب، ومن ثم إما إلى جنة وإما إلى نار، فهو قد خلق ذلك إلى أجل وزمن محدد مسمى عنده، أي: مسمى في أي سنة من التاريخ الهجري مثلاً: في ليل أو نهار، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن القيامة تقوم يوم الجمعة، فنحن قد علمنا يومها على الأرض ولكن متى تكون في صيف أو شتاء؟ في خريف أو ربيع؟ بعد سنة أو أكثر؟ كل ذلك لا يعلمه إلا الله، وفي الحديث عندما سأل جبريل نبينا عليه الصلاة والسلام: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل).
فأمر الساعة مما استأثر الله بعلمه، وقد كرر الله هذا المعنى في القرآن في غير ما آية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأعراف: ١٨٧]، فالله استأثر بعلمها فيما استأثر به، ولكن قد بين بعض العلامات كما في حديث جبريل الذي سأل فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (وما علامتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان)، وهذه العلامات الصغرى قد رأيناها ورآها جميع الناس، وتبقى العلامات الكبرى مثل: خروج المهدي المنتظر، وخروج الدجال، ونزول عيسى من السماء، وخروج الريح الحمراء التي تخرج في عدن، وشروق الشمس من مغربها، وظهور الدابة، وهي عشر علامات قد ورد ذكرها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تنتهي الدنيا حتى تظهر هذه العلامات العشر الكبيرة، ولعلنا على أبوابها أو قريبون منها.
التنوين في قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ كُلٌّ﴾ [فاطر: ١٣]، هو تنوين العوض أي: كل الليل والنهار، والشمس والقمر تجري إلى أجل، فهي باقية ومتسلسلة ويجري بعضها خلف بعض إلى أجل مسمى عنده، وهذا الأجل هو يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ﴾ [فاطر: ١٣]، تقدم غير ما مرة في أكثر من مناسبة أن الإشارة تكون مفردة، ولكن إذا أشير إلى المخاطبين تتغير الإشارة بتغير المخاطبين، فإذا خاطبت واحداً قلت: ذلك الله، وإن خاطبت اثنين قلت: ذلكما الله، أي: أشير للمخاطبين، وإن خاطبت رجالاً جمعاً أقول: ذلكم الله، وإن خاطبت جمع نساء أقول: ذلكن الله، والخطاب الآن للرجال والنساء ولكل الخلق، ومعلوم أنه إذا كان الجمع مشتملاً على ذكور وإناث يغلب جمع الذكور ﴿ذَلِكُمُ﴾ [فاطر: ١٣] أي: ذاك الذي يقدر على هذا، فهو الذي خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم جعله بشراً سوياً من ذكر وأنثى، وهو الذي خلق لنا المياه العذبة الزلال من الأنهار أو الآبار والعيون، وخلق لنا مياه البحار المالحة المرة، وهيأهما جميعاً حتى استخرجنا منهما لحماً طرياً من أنواع الحيتان والأسماك، واستخرجنا منهما الحلية التي يلبسها نساؤنا من أنواع الجواهر وأنواع اللآلئ وأنواع المرجان، والذي جعل الليل والنهار وجعل الشمس والقمر، وكل يجري لأجل مسمى، من الذي خلق ذلك؟ ومن الذي صنع ذلك؟ ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ [فاطر: ١٣]، خالقكم ورازقكم ومحييكم ومميتكم، لا الأصنام التي يعبدها المشركون، ولا ماركس ولا لينين أو غيرهما مما يعبد المرتدون، ولا الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان من أنواع الجمادات وأنواع الأحياء، كل ذلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولن يخلق ذبابة ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣].
وما ذاك إلا لأن الملك لله وحده، قال سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ﴾ [فاطر: ١٣]، فله ملك السماوات السبع والأرضين السبع، له ملك الكون كله فلا يملك أحد معه شيئاً، ولذلك قال بعد ذلك: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ [فاطر: ١٣]، قوله: تدعون، أي: تعبدون، والدعاء مخ العبادة، والقطمير هو: القشرة الرقيقة التي تكون بين التمرة وبين النواة، والحفرة اسمها النقير، والعرب تضرب الأمثال في لغتها فيقولون: فلان لا يملك نقيراً ولا قطميراً، ونطق الله بهذه الفصاحة والبلاغة في كتابه، فبين أن هؤلاء لا يملكون حتى تلك الجلدة الرقيقة التي على ظاهر نواة التمرة في جوف التمرة، إذ هم أحقر من ذلك وأقل وأعجز.
فهؤلاء الذين نسبوا لهم الألوهية والربوبية، ويجعلهم العابدون المشركون الوثنيون آلهة مع الله فنسبوا لهم الخلق والرزق، ونسبوا لهم الحياة ونسبوا لهم الموت، كل ذلك كذب وهراء وضلال مبين، إذ هم أعجز من أن يخلقوا حتى هذه القشرة التي بين النواة والتمرة.
فالله هو المالك لكل شيء، وهو الخالق لكل شيء، وهو الرازق لكل شيء.
قال تعالى: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ﴾ [فاطر: ١٤]، أي: بل أكثر من ذلك، هؤلاء الذين تدعون وتعبدون من دون الله، وهم لا يملكون نقيراً ولا يملكون قطميراً، ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾ [فاطر: ١٤]، أي: إن ناديتموهم مستغيثين مستجيرين لا يسمعوكم إن كانوا جمادات صماً.
﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ [فاطر: ١٤]، أي: ولو سمعوا كما تسمع الملائكة بالنسبة لمن يعبدها وللجن بالنسبة لمن يعبدهم، وللعبد النبي عيسى وللصديقة مريم بالنسبة لمن يعبدهما لم يستجيبوا لهم، ولم يلتفتوا إليهم، ولم يحققوا طلبهم لأنهم عاجزون عن ذلك، وليس ذلك فحسب بل سيتبرءون منهم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطر: ١٤]، ففي يوم القيامة تتبرأ هذه المعبودات الحية من شرك المشركين، وقد قص الله علينا قصة عيسى وهو يسأله ليقرع النصارى ويبكتهم ويكذبهم في زعمهم: {يَا عِ


الصفحة التالية
Icon