تفسير قوله تعالى: (إن أنت إلا نذير)
﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٣].
أي: ليست الهداية لك، فأنت لم تكلف بمخاطبة الموتى، ولا ببلاغهم، وإنما كلفت بالبلاغ للأحياء، ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٣] (إن) هنا نافية، والمعنى: أنت لست إلا منذراً ورسولاً جئت مبشراً أقواماً اهتدوا فصاروا إلى الجنة، وجئت منذراً أقواماً خرجوا عن الطاعات وظلوا في الكفر فأنت تنذرهم بعذاب الله وعقابه وخلودهم في النيران.
قوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤].
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك يا محمد (بالحق) أي: بالقرآن، فالقرآن حق، وهو وحي الله وكلامه، وبالسنة، فالسنة حق وهي بيان للقرآن وشرح وتفسير له.
وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: كل هدي للنبي عليه الصلاة والسلام ما كان منها من عمل، وما كان منها من قول، وما كان منها من إقرار فهو بيان وتفسير لكلام الله، إطلاقاً أو تقييداً، تخصيصاً أو تعميماً، أو بياناً للناسخ والمنسوخ والمحكم.
ويفهم من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ [فاطر: ٢٤]، أي: لتدعو الناس للحق، ولترشد الناس إلى الحق، والله هو الحق جل جلاله، وأنزل الكتاب المنزل وهو القرآن الكريم بالحق، وأرسل نبينا عليه الصلاة والسلام بالحق مبيناً وشارحاً ومفسراً، ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فاطر: ٢٤]، مبشراً المؤمن بالجنة، ومنذراً الكافر بالنار، فتبشر المؤمن لأنه آمن واستسلم لله ولرسول الله ﷺ برضا الله ورحمته وجنانه، وتنذر من كفر بالله، فخرج عن أمر الله بالنار والعذاب والغضب إن هو دام على ذلك، ومات عليه.
﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤].
(من أمة) من: حرف جر دخل على نكرة، فدل على العموم أي: ما من أمة خرجت في هذه الدنيا، وما نحن بين الأمم كما قال عليه الصلاة والسلام: (إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود).
أي: ما مضى من الأمم هي في عددها وفي كثرتها كعدد شعر الثور الأسود، وما الأمة المحمدية وأمة الإسلام إلا كالشعرة البيضاء بين هذه الكتل المتكتلة من الشعر الأسود في هذا الثور، ومع ذلك ما من أمة من هذه الأمم إلا أرسل الله لها نذيراً، يبشرها بالجنة إن هي أطاعت، وينذرها بالنار إن هي عصت وتمردت، ولذلك كانت حجج الله على الأمم كلها قائمة، فلا يوجد أمة من الأمم إلا وأرسل الله لها بشيراً ونذيراً، يبشرها وينذرها ويعلمها بالخالق الواحد، المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، الذي لا أول له ولا آخر له، كان ولا شيء معه، وسيبقى كما كان ولا شيء معه، خالق الكل ورازق الكل، ومدبر الكل، له الأمر وله النهي جل جلاله وعلا مقامه، ويجدر التنبيه إلى أن الأنبياء جميعاً كانوا رسلاً قوميين، أي: أرسلوا إلى أقوامهم، فنحن نقول على أنبياء بني إسرائيل منذ إسحاق إلى عيسى خاتمهم أنبياء بني إسرائيل، أي: أنبياء قوميون لم يرسلوا إلا إلى بني إسرائيل، ولكن محمداً سيد البشر، وخاتم الأنبياء العربي المكي المدني الهاشمي مرسل وحده إلى جميع الخلائق، فلا نبي بعده ولا رسول، فقد أرسل إلى الأبيض والأسود والأحمر، وأرسل إلى العرب والعجم، وإن مات عليه الصلاة والسلام فرسالته قائمة، مأمور بتنفيذها، وبالإيمان بها، وبالعمل وفقها، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، وقال سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١].
فهو منذر ومبشر ورسول لكل العوالم من الإنس والجن، في الشرق والغرب، من العرب والعجم، منذ العوالم الذين عاصروه إلى من سيأتون بعده إلى يوم القيامة، كل أولئك أمة محمدية، من استجاب وأطاع فهو من أمة الإجابة، ومن تمرد وعصى فهو من الأمة المحمدية التي تمردت على محمد ودين محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك لم يبق للنصرانية ذكر، ولا لليهودية ذكر، ولا للأديان السابقة ذكر، فقد كانت أدياناً كلف بها من أرسلوا إليهم حال حياتهم، فعندما رفع عيسى بقيت نبوءته إلى وقت إرسال نبينا، ولكن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما كاد يخرج لهذا الوجود ساعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً حتى كانت الأديان السابقة قد نسخت برسالته، وإن كانت قد نسخت بالتبديل والتغيير والتحريف قبل بعثته، فكان قول الله لرسوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: ٢٨]، ناسخاً لكل ديانة قبله.
لم يكن أحد يقول: الله إلا هو، وعندما نزل من غار حراء إلى السيدة الطاهرة أم المؤمنين الأولى رضوان الله عليها، وحدثها بما حدثها، فقال لها: (دثروني دثروني، وقص عليها قصته فقالت: لا تخف إنك تحمل الكل وتعين على الزمان، وتقري الضيف، وتصدق الحديث)، وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخاً هرماً كبيراً مسناً وكان من العرب الموحدين، فقالت له: (اسمع يا ابن عم إلى ابن أخيك.
فقص عليه النبي قصته ﷺ فقال له ورقة: ذاك والله الناموس الذي أرسل إلى موسى وعيسى، ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك -أي: ليتني أكون شاباً عندما تدعو قومك إلى عبادة الله فيحاربوك ويقاتلوك ويرموك عن قوس واحدة، فليتني أكون شاباً كالمهر قوة وشبوبية لقاتلت عنك ونافحت عن دينك- قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم.
ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا وقاتلوه وأخرجوه)، وهذا قد كان.
ومن هنا ترجم علماؤنا ممن كتب في تراجم الصحابة لـ ورقة على أنه مسلم وصاحبي جليل؛ لأنه تمنى أن لو كان شاباً عندما يطرده قومه ليحارب معه ويدافع عن دينه، فهو إذاً قد آمن به.