تفسير قوله تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله)
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: ٢٩ - ٣٠].
يذكر الله جل جلاله هنا صفات العلماء الذين يخشون الله والذين علموا ما علمهم الله وعلَّموا وعملوا بعلمهم.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ أي: يلازمون تلاوة كتاب الله تدبراً وترنماً وتغنياً بحيث لا يخرجون عن آداب التجويد مداً وقلقلة، ونطقاً بالأحرف كما نطق بها العرب الأوائل، بالتجويد الذي جعله علماؤنا لنتعلم به كيف ننطق وكيف نتلو وكيف ندرس كتاب الله؛ لكي لا نلحن ولا نغير في كتاب الله، فللمد قواعد ورتب، وللضاد وللظاء وللذال أحكام، وللتفخيم وللترقيق أحكام، فمتى نقل: باسم الله نرقق، ومتى نفخم نقل: قال الله، لكل ذلك قواعده في علم التجويد وعلم اللغة.
يذكر أن نصرانياً كان له شأن في الشام وحكومتها، فارتقى إلى أن أصبح رئيس وزراء على كفره، وكان يتعلم على القراء علم التجويد، فقال له مرة أحد زملائه النصارى من أساتذة جامعة دمشق: وما حاجتك للتجويد؟ قال: إن التجويد عجيب في علوم المسلمين، فاللغات اللاتينية واللغات الصينية وما سواها من بقية لغات الأرض ينطق بها الناس اليوم، ولكن ليس كما كان ينطق بها الأوائل؛ لأنه لم يدون ولم يكتب إلا النطق بالحرف، أما كيفية هذا النطق، هل هو ذال أو دال، هل هو تاء أو ثاء، هل هو ضاد أو ظاء، هل هو مرقق أو مفخم، هل هو مدة طبيعة أو مدة زائدة، لم يفصل فيه إلا المسلمون بتلاوة كتاب ربهم، وهكذا نرى من لم يتعلم التجويد إذا قرأ القرآن ورتله يكون إلى اللحن أقرب، إذ لا يعطيه حقه من المدات والتفخيم والترقيق، وبعض الشعوب العربية تنطق الثاء ساء، وتنطق الذال دالاً، وتنطق الظاء ضاداً، وتنطق الجيم قافاً، وهذا كله تغيير وتبديل.
سألني ذات مرة مصري فقال: لا أستطيع النطق بالجيم إلا قاف، فإذا تلوت القرآن ماذا أعمل؟ وهل هذه لغة عربية؟ فقلت له: عربية نعم، ولكنها ليست تلاوة القرآن، وتلاوة القرآن إما جيم خالصة، أو قاف خالصة، والمغاربة خاصة في مدينة مراج، لا ينطقون إلا بها، ولكن لا ينطقونها جيماً خالصة ولا قافاً خالصة، بل يجعلونها بين الكاف والقاف، وتميزها بكاف عليها ثلاث نقط أو قاف عليها ثلاث نقط، والمعنى: أنها قاف، وهكذا علم التجويد، فتلاوة كتاب الله لا ينبغي للمسلم أن ينقطع عنها ألبتة، والأكمل أن يتلوها بتدبر وتمعن وتفكر في معانيها، وهو بذلك مأجور، وكما أخبر عليه الصلاة والسلام أن له بكل حرف عشر حسنات، قال: (لا أقول: الم حرف، لكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي: أجر التالي لكتاب الله ويقول: (الم) ثلاثون حسنة.
والتلاوة في القرآن الكريم تحفظ البصر وتقويه، وتعين الحفاظ على قوة الإصرار، وهذه من خصائص التلاوة في المصحف، ويشهد المصحف يوم القيامة لتاليه أن فلان ابن فلان ابن فلانة كان يتلوني صباح مساء، وكان يقرؤني في كل الأوقات.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ [فاطر: ٢٩] وتمام التلاوة النطق مع العمل، أي: يتلو القرآن ناطقاً، ويعمل بما فيه، فإذا قال الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] فليقم الصلاة في أول أوقاتها الخمسة كلها، وليأت من النوافل ما استطاع، وليحرص على ذلك، وإذا لعن القرآن الكاذبين والكافرين والمنافقين فليحرص على أن يبتعد عن ساحة هؤلاء الكافرين والكاذبين والمنافقين، إلى غير ذلك مما تخلل كتاب الله من حكمة وشريعة وقصص وعقيدة وأحكام، ومن حلال وحرام وآداب ورقائق.
وأعظم التلاوة هو العمل؛ ولذلك عندما يرد ذكر التلاوة في القرآن يقصد به ذكر اللسان وذكر القلب، والعمل بذلك بالأركان والجوارح، فكلمة تلاوة تشمل كل ذلك، ومن قام بكل ذلك قام بالمعنى الكامل التام.
فقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)) أي: تلوه باللسان ولم يكتفوا بالقول، بل زكوا القول بالعمل، فيأتي بعد الشهادتين إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة: الحفاظ عليها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وسننها ومستحباتها، وليتم للمؤمن إيمانه لا بد أن يتم مع القول العمل.
فهؤلاء التالون لكتاب الله عبدوا الله وأطاعوه بالصلاة كما أمرهم وكما بينها رسول الله ﷺ من قيام وقعود وركوع وسجود وتلاوة وذكر، وفي الأوقات المعهودة المعلومة لكل مسلم.
قوله: (وأنفقوا) هذه طاعة الله في خدمة عباده، وفي الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وفي الإنفاق على السائل والمحروم، ومن تمام صفات المؤمن أنه يعطي السائل، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: ٢٤ - ٢٥]، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح المسئول إن صدق السائل) وكل يعطي بحسب ما عنده، ومن لم يعط من القليل لم يعط من الكثير.
قال تعالى: ﴿سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ أي: سراً بحيث لا تدري اليسرى بما تصنعه اليمنى، (وعلانية) ليكون قدوة لأولاده وتلاميذه وأنصاره، حتى يعلم الناس أنه لا يفعل ذلك إلا ليقتدي به الناس، فلا يكون عمله كله إعلاناً، ولا يكون كله سراً، ولا يستوي عنده السر والعلن، ففي العلن لا يرى في عمله إلا الله والدار الآخرة، وفي السر لا يعمل العمل إلا لله وللدار الآخرة.
والإعلان يفعله لكي يكون قدوة، ولكي لا يتهم؛ لأن الزكوات واجبة، وقديماً قالوا: لا شكر على واجب، فيجب أن تكون الزكوات علناً حتى لا يتهم بأنه لا يؤدي الزكاة، وزكاة الفطر كذلك يجب أن تعلن، وإلا وقف موقف المتهم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم) فمن لا ينفق إلا سراً ولا يعلم به من يعلم يوشك أن يقال عنه: يمنع حق الله والواجب من ماله، ويمنع الزكاة عن الفقراء والمساكين، وتلك كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم.
أما عن السر فقد قال عليه الصلاة والسلام أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مبالغة في أنه يفعل ما يفعل ولا يقصد به إلا الله والدار الآخرة، بحيث لا حاجة له إلى أن يعلم ذلك قريب ولا بعيد، وإن كانت اليسرى لا تعلم ما أنفقت اليمنى فمن باب أولى الزوجة والولد، هذا إن كان لذلك معنى من المعاني، أما إذا كان موضع الأسوة -وكل أب موضع الأسوة لأهله وأولاده ولأصدقائه المحبين- فلا بد أن يكون موضع الأسوة لغيره فيعلن ذلك.
فقوله: ﴿سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ [فاطر: ٢٩] سراً بحيث يخفى على الناس، وعلانية أي: جهراً بحيث يرى الناس ذلك.
قال تعالى: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر: ٢٩] أي: يفعلون ذلك لا لكي يقال، وإلا أصبحوا منافقين مرائين، إذاً: لا يفعلون ذلك إلا رجاء في رحمة الله، وفي التجارة الإلهية وفي الثواب والأجر من الله.
قوله: ((لَنْ تَبُورَ)) أي: لن تهلك ولن تفسد ولن تكسد، وهذه التجارة هي التجارة مع الله، فالله هو الذي يأجرك ويحسن إليك ويعطيك من الأجر ومن الثواب ومن الحسنات جزاء أعمالك، فالمؤمن لا يفعل الخير إلا لله رجاء رحمته ورجاء رضوانه وثوابه، فيأخذ أجره من الله، فتجارة هذا المؤمن لن تضيع ولن تكسد، بل صاحبها يبقى دائماً رابحاً.
قال تعالى: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [فاطر: ٣٠] أي: يفعلون ذلك فيتجرون مع الله رجاء ثوابه ومغفرته ورضوانه، ليعطيهم الله أجورهم بالوفاء، إذ إن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، فقد يضاعف ذلك إلى سبعمائة فأزيد، كما قال عن الصيام: (وأنا أجزي به) أي: جزاء لا يقدر من الأجر والثواب، وما ذاك إلا الجنة والخلود فيها، جعلنا الله من أهلها وسكانها.
﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [فاطر: ٣٠] أي: ليعطيهم أجورهم وافية كاملة تامة مضاعفة، (ويزيدهم) أي: عند الله الحسنى وزيادة، فيزيدهم من فضله زيادة لم يعملوا لها، وكسباً لم يسعوا إليه، ولكن من فضل الله وكرمه وجوده.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: ٣٠] أي: إنه هو الذي يغفر الذنوب، ويشكر العبد على عمله.