تفسير قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: ٣٢].
تكلم الله جل جلاله في هذه الآية على فئات المسلمين، وأنهم ثلاث فئات فقال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: ٣٢].
(أورثنا): أعطينا، أي: جعلناهم الورثة المالكين، وجعلناهم أهل الحق بين الناس أجمعين، واصطفاهم لعبادته، وللإيمان به، واصطفاهم من الكبيرات ومن الشرك، ومن الظلم ومن النفاق، والكتاب هو القرآن الكريم.
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: ٣٢].
أورث الله الكتاب من اصطفاه واختاره من عباده من بين خلقه من بين الناس أجمعين، فكان هؤلاء المصطفين هم المؤمنون وهم أهل ذكر الله، وهم فئات ثلاثة فئة ظالمة لنفسها، وفئة مقتصدة في الظلم والآثام، وفئة سابقة بالخيرات بإذن الله ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: ٣٢].
ولأن هؤلاء الفئات الثلاث بظالميهم وبمقتصديهم وبسابقيهم بالخيرات من الفئات المؤمنة فقد تفضل الله عليهم بفضل كبير: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ [فاطر: ٣٣].
فكلهم من أهل الجنة، وكلهم يدخلون الجنة، وفي الخبر أن عمر رضي الله عنه خطب على المنبر النبوي يوم الجمعة فقال: إن العباد عباد الله المصطفين، منهم سابق بالخيرات، ومنهم مقتصد في الذنوب، ومنهم ظالم لنفسه، فالسابق سابق، والمقتصد ناج، والظالم مغفور له، وهذا الذي قاله عمر ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن الظالم لنفسه في هذه الآية هو من المؤمنين المسلمين.
وروي ذلك كذلك عن أمير المؤمنين عثمان وعن عبد الله بن عباس وعن أبي الدرداء وعن جمهور من التابعين كذلك والأئمة، فالعامة من العلماء إلا قلة ذكروا أن الظالمين في هذه الآية هم فئة من فئات المسلمين مآلها الجنة بعد ذلك.
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام تلا هذه الآية ثم قال: (الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، كلهم في الجنة).
فالسابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب، والمقتصد يدخل الجنة بعد حساب يسير، والظالم لنفسه يحاسب حساباً يكون فيه من الغم والهم، ثم بعد ذلك يدخل الجنة.
وجاء في الأثر: (أن رجلاً رحل إلى دمشق فدخل المسجد فوجد أبا الدرداء فجلس حذاءه فقال: اللهم آنس وحشتي، وهيئ لي جليساً صالحاً، وإذا بـ أبي الدرداء يلتفت إليه سائلاً: من أنت؟ ومن أين جئت؟ قال: من المدينة، قال: ما الذي جاء بك؟ قال: سمعتك تروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لم تأت لتجارة ولا جاءت بك حاجة؟ قال: لا، قال: لم يأت بك إلا الدعوة والسعي في العلم؟ قال: نعم.
قال: أبشر فقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع).
والحديث الذي سأله عنه هو هذا: (تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر: ٣٢] قال: كلهم مسلمون، وكلهم إلى الجنة، السابق سابق، والمقتصد ناج، والظالم بعد حساب وبعد هم وحزن يدخل الجنة ويقول الجميع: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: ٣٤]).
والظالم هنا: المرتكب للكبائر الموحد لله المؤمن برسول الله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).
والمقتصد: من عمل عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يغفر له، و (عسى) في القرآن للتحقيق، فمعناه: وأن المقتصد الخالط بين عمله الصالح والسيئ مغفور له بإذن الله، فهو الذي يقوم بالفرائض وقد يخل في السنن، يترك الكبائر وقد يرتكب الصغائر، فهو قد اقتصد في فعل السيئات وارتكابها، أي: لم يسرف على نفسه بارتكاب الكبائر، ومن لم يرتكب الكبائر يغفر الله له الصغائر بتركه الكبائر.
وهذا هو الذي قاله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبو الدرداء وابن عباس، وروته كذلك أم المؤمنين والصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، فقد جاء عنها: أن رجلاً سألها وهو أبو عثمان النهدي فقال: يا أم المؤمنين! ما معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ٣٢] إلى آخر الآية؟ فقالت: يا بني! السابق بالخيرات: هم أصحاب رسول الله الأولون الذين ذهبوا أماماً وسبقوا إلى الآخرة ولم يبدلوا بعده ولم يغيروا.
والمقتصد: من جاء بعدهم فعمل عملهم ثم خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
أما الظالم لنفسه: فمثلي ومثلك.
وإنما جعلت نفسها من الظالمين لنفسها من تواضعها وهضهما لنفسها رضي الله عنها، وإلا فمرتبتها بين أمهات المؤمنين ومكانها بين الأصحاب في الذروة العلياء صحبة وعلماً وإخلاصاً وعبادة وطاعة، وأما ما حدث في موقعة الجمل فهي إنما صنعت شيئاً لم تكن تقصده، بل خرجت للإصلاح وإذا بهذا الإصلاح يتحول إلى معركة وحرب دامية، فكانت تستغفر الله من ذلك مدى حياتها، ومن أجل ذلك هضمت نفسها، ولم تجعل نفسها مع السابقين بالخيرات، ولا مع المقتصدين.
وهكذا هذه الآية تدع المؤمن ليرجو رحمة ربه، ويرجو مغفرة ذنبه، ويرجو من الله أن يكون مهما ارتكب من الذنوب وعاد إلى التوبة والإنابة وندم عما أسلفه أن يغفر له، وأن يتشفع له رسول الله ﷺ في من يشفع لهم من أهل الكبائر.
أما السابقون: فهم ثلث الأمة المحمدية، وهم الفئة الثالثة، ونعتوا في الآية بأنهم الذين سبقوا بالخيرات، وجعلوا في الذكر أخيراً، وهم في الرتبة والدرجة الأولون السابقون، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: ١٠٠].
كانوا هم السابقين للإيمان، والسابقين للطاعة، والسابقين لعبادة الله والقيام بما أمر، وترك ما نهى عنه، وهؤلاء هم من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من المؤمنين ومن الأتباع إلى يوم القيامة، وهم من قال عنهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما أنا عليه وأصحابي).
فمن كان كذلك كان من السابقين، ومن اقتصد فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فهو كذلك من الناجين بفضل الله بعد حساب يسير، وأما الظالم لنفسه المرتكب للكبائر الذي مات على التوحيد فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله يوم القيامة يأتيه خلق من خلقه، وعبيد من عبيده تثقل ذنوبهم ومساوئهم الميزان، وترفع كفة الحسنات فيؤمر بهم إلى النار، فيقول الملائكة: يا ربنا إنهم أتوا إليك وهم يقولون: لا إله إلا الله وحده، لم يشركوا بك قط منذ عاشوا وإلى أن أتوك، فيقول الله: إذاً: أنا أغفر لهم).
وورد: (أن رجلاً كثرت ذنوبه حتى ملأت سجلاته وليس له حسنات فيؤمر به إلى النار، فعندما يذهب به الملائكة وإذا ببطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله، فوضعت في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وأمر به إلى الجنة).
وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هنيئاً لأهل لا إله إلا الله حال حياتهم، هنيئاً لأهل لا إله إلا الله حال مجيئهم عند ربهم، وعرضهم عليه، فهم على كل حال مغفور لهم مهما طال عذابهم وحسابهم؛ ولأجل ذلك قال الله عنهم: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: ٣٢].
وقد اختار الله الأمة المحمدية التي هي بين الأمم السابقة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كالشعرة البيضاء في الثور الأسود) لكثرة الأمم السابقة ولقلة الأمة المحمدية ومع ذلك هم أكثر أهلها، فهم أكثر أبناء آدم وحواء دخولاً للجنة.
وكون الله اصطفاهم سواء منهم الظالم وغير الظالم المذنب وغير المذنب ما داموا جميعاً يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله فهم بخير، حتى إن عذب منهم من عذب، ودخل النار من دخل لن يخلدوا في النار وسيخرجون بعد ذلك مهما طال الزمان أو قصر، وقد يغفر الله لهم فلا يدخلونها.


الصفحة التالية
Icon