تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا)
ثم عقب الله بعد ذلك بذكر حال الكافرين الذين ماتوا على الشرك بالله، والكفر بالأنبياء، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: ٣٦].
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [فاطر: ٣٦]، أي: كفروا بالله رباً، وبمحمد نبياً وخاتماً للرسل، وبالقرآن إماماً، وماتوا على ذلك لهم نار جهنم.
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء: ٥٦].
قوله: ﴿لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ [فاطر: ٣٦]، أي: لا يسبق في قضاء الله عليهم يوم القيامة موت؛ لأن الموت يموت هو أيضاً في الآخرة، فأهل النعيم خالدون لا موت، وأهل الجحيم خالدون لا موت، والقضاء يكون بالموت كما قال تعالى عن موسى: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ [القصص: ١٥].
وكما قال في قصة سليمان: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾ [سبأ: ١٤].
فلا يكون الموت قضاءً من الله عليهم عقوبة لهم، بل تكون الحياة مع التقلب بالعذاب دائماً سرمداً؛ لأن في الموت راحة لهم، ولذا يطلبون الموت ويفرحون به، ولكن هيهات لا موت، بل يجدد لهم العذاب وتجدد جلودهم وأجسامهم، فكلما احترقت وانتهت أعيد خلقها خلقاً جديداً ليبقى العذاب دائماً مستمراً جزاءً وفاقاً؛ لكفرهم بالله الخالق وبنعمه الظاهرة والباطنة.
﴿كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: ٣٦]، أي: كذلك الجزاء نجزي الكافرين، وقول الله لذلك وهو يقص علينا قصص الكافرين السابقين ليكون موعظة وذكرى للمؤمنين، وتحذيراً للناس أن يتبعوا حال حياتهم الكافرين في كفرهم فيعاقبون عقابهم، ويجازون جزاءهم، وليس الجزاء خاصاً بالكافرين الأولين؛ ولكنه عام للأولين والحاضرين واللاحقين من المعاصرين في عصرنا ومن الآتين بعدنا إلى آخر إنسان في هذه الدنيا.
فمن مات كافراً له نار جهنم لن يموت ولن يخفف عنه من عذابها، وكل من مات موحداً له النعيم الدائم في الجنان خالداً فيها حتى يقول بعد دخولها: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فاطر: ٣٤ - ٣٥].
وأما الكافرون فليسوا كذلك، فهم في جهنم خالدون لا يموتون، ولا يخفف عنهم عذابها، قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا﴾ [فاطر: ٣٧] يدخلون النار حال كونهم يصطرخون، ﴿أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [فاطر: ٣٧]، فيقول الله لهم موبخاً ومقرعاً: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر: ٣٧].
اصطرخ: افتعل؛ من الصراخ والصياح، أي: يرفعون أصواتهم، وشأن المعذب شأن الذي لا يملك جزأً من جسده ولا خلية من ذاته إلا وتعذب أشد أنواع العذاب، فيصرخ: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا﴾ [فاطر: ٣٧] يقولون: يا ربنا، ولم يكونوا يعترفون بذلك في دار الدنيا، بل ما قالوا يوماً: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا يوم الدين، ولكنهم أخذوا يقولون ذلك بعد أن رأوا ما أنكروه في حال الدنيا من البعث والحياة بعد الموت، والعذاب الذي هددوا به من قبل أنبيائهم في الدنيا، ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا﴾ [فاطر: ٣٧] أي: يقولون في صراخهم، فالدعاء بيان صراخهم وإجابة ل
Q بماذا يصيحون وبماذا يصرخون؟ يصطرخون يقولون: ربنا أخرجنا، أي: من النار ومن العذاب.
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [فاطر: ٣٧] أخرجنا من النار، وأعدنا إلى دار الدنيا نعمل أعمالاً صالحة غير الأعمال الطالحة التي فعلناها في حياتنا الأولى، وهيهات هيهات! لن ترجع عقارب الساعة إلى الوراء، فالدنيا فنيت ولن تعود، سواء كان وقتها يوماً، أو كان زمنها ساعة، وإذا بها ذهبت فمن سعد ففيها كانت السعادة، ومن شقي فمنها مقام الشقاوة.
أما الآخرة فهي دائمة، ولا عودة منها قط إلى دنيا؛ لأنها حينها قد أصبحت عهناً منفوشاً لا جبال ولا أراضي، ولا سماوات، الكل قد فني وأصبح ذراً بين الذر، وهباءً بين الهباء، ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [فاطر: ٣٧] فتجيبهم ملائكة الله عن أمر الله أو يجيبهم الله بنفسه فيقول الله لهم: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر: ٣٧].
ألم نحيكم في الدنيا، ونعمركم عمراً يمكنكم أن تتفكروا فيها لو شئتم، لقد طال هذا العمر بما يكفي أن يتذكر فيه الإنسان فهو سنوات، فما بالكم لم تتذكروا وقد جاءكم النذير ينذركم ويتهددكم ويتوعدكم.
وقد قال قوم في هذا العمر: هو سن البلوغ من الإنسان، وقال قوم وهم كثر: هي أربعون سنة، من بلغ في سنه أربعين سنة ولم يقل يوماً ربي الله، ولم يعد إلى الله مع هذه العشرات من السنين وبقي على حاله يوشك أن يبقى كذلك إلى الموت، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (من شب على شيء شاب عليه).
الإيمان والثبات على الدينية يكون في الشبوبية على الغالب، وقد يكون أحياناً في الكبر إذا سبقت عناية الله بالإنسان، ولكن جرت العادة على أن من نشأ على الكفر عاش على الكفر، ومن نشأ على الفسوق عاش على الفسوق، وأكد هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: (من شب على شيء شاب عليه).
وقال أقوام: التعمير المراد بالآية هو: دون سنة، ورووا في ذلك أحاديث لم يصححها الحفاظ تصحيحاً كاملاً، وأن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من عاش ستين سنة فقد أعذر الله إليه) أي: فقد جعل الله له العذر الكامل فيما إذا قصر خلال هذه الستين فيتوب ويئوب ويرجع إلى الله قبل الموت، واستشهدوا على ذلك بالحديث الثابت الصحيح الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل منهم من يتجاوز ذلك).
وهذا نشاهده ونراه، ولم تكن الأمم السابقة تعيش هذا، بل كانت تعيش المئات، وقد قص الله علينا في كتابه بأن نوحاً لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو نبي، وقد عاش قبل ذلك قالوا: أربعين سنة، وقالوا: مائتين وقالوا: ثلاثمائة.
وفي التوراة والإنجيل عن أنبياء بني إسرائيل ومن سبقوهم ممن عاش ثلاثمائة سنة وأربعمائة سنة ما يؤكد ذلك، أما حياة نوح فهي كما ذكرها الله في كتابه، وأنه عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولكن الشأن من الأمة الآخرة -أمة آخر الأنبياء- إذ لا أمة بعد أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقد قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك).
وفي لفظ آخر: (معترك المنايا بين أمتي ما بين الستين والسبعين)، معترك أي: الموت يتعارك عندما يبلغ الإنسان بين الستين والسبعين فيحاول الموت أن يأخذ روح الإنسان وهو في هذه السن في الغالب، وإلا فالكثير من يموت قبل ذلك.
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾ [فاطر: ٣٧]، عمراً يكفي لأن يتذكر الإنسان فيه يوماً الرسالة التي أرسل الله بها نبي عصره، والكتاب المنزل على نبي عصره، والبشارة على لسان نبي عصره، والنذارة على لسان نبي عصره، وفي عصرنا منذ بدء الرسالة المحمدية -أي: منذ ألف وأربعمائة عام- وإلى آخر لحظة من الدنيا، فليس بعد محمد نبي آخر، فرسالته لمن في عصره، ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة.
قوله: ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر: ٣٧] قالوا: النذير: النبي، فهو النذير المنذر، وقالوا: القرآن، وهنا كذلك يتكلم الله عن الأعمار: ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر: ٣٧] فجمهور المفسرين قالوا: النذير: الشيب.
وفي الآثار قالت شعرة وقد ابيضت لجارتها: استعدي للموت فقد جاءك النذير.
وقالوا: النذير الحمى فهي الطريق إلى الموت، وليس دائماً، وقالوا: النذير موت الأحباب والأقارب، ومن ذلك موت الأقران والزملاء، فيرى الإنسان أخاه قد مات، وزميله في الدراسة وفي العمل وفي الجوار قد مات، وهو يقول: يأتي الدور علي غداً أو بعد غد، فعلى كل حال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].
فالموت حق، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: ١٨٥] ولكن النذير في الأعمار: أن يكون الرجل شاباً فينتقل إلى الشيخوخة ثم إلى ضعف البنية وإلى بياض الشعر ذلك نذير، ونحن لا نموت فجأة دفعة واحدة في الغالب، ولكن يموت الإنسان يوماً بعد يوم، ففي خلايا جسم كل إنسان ملايين الخلايا، والخلايا هذه تموت خلية بعد خلية، والعصب يضعف، والشرايين تضعف، شريان بعد شريان وهو موت بطيء، ولذلك من كان قوياً كأن يكون رياضياً في الشبوبية يحمل الأرطال ويحمل القنطار إذا شاب لن يستطيع حمل ما كان يحمله وهو ابن خمس سنوات، ومن كان إذا سابق سباقاً لنظرائه وقد يسبق بعض الدواب والحيوانات فإذا شاب فإنه حتى المشي العادي لا يستطيعه إذا لم يتكئ على آخر أو يعتمد على عكاز، وهكذا دواليك، فكما جئنا ضعافاً سنعود ضعافاً ونعود كما جئنا، جئنا من تراب وسنرجع إلى تراب، إلى أن يعيدنا الله جل جلاله إلى الآخرة، ونرجوه جل جلاله أن يجعلنا من أهل الجنة ومن أصحاب النعيم الدائم، وتبقى الدنيا برزخاً، وكما قال الحسن البصري: خلقنا للأبد وإنما هي نقلة من دار إلى دار كما ينتقل الحي من حي إلى حي، ومن دار إلى دار، ومن حالة إلى حالة كذلك الآخرة ليست إلا نقلة.
ولذلك الأرواح تبقى معلقة إلى أن تعود لأجسامه


الصفحة التالية
Icon