تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله)
قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر: ٤٠].
يقول الله لهؤلاء المشركين سكان النار الخالدين فيها أبداً، الذين يصيحون ويصطرخون يرجون الخروج وهيهات لات حين خروج، ولات حين مندم، يقول الله: قل يا محمد لهؤلاء: أروني الذين تدعون من دون الله، قل لهم يعلمونك، ذلك علم رؤية قلبية، أو رؤية عينية، قل لهؤلاء: أرأيتم هؤلاء الشركاء أطلعوني عليهم، أروني إياهم وأعلموني بمقامهم، يخاطب الذين جعلوا لله شركاء وزعموا أنهم خلقوا كخلقه وأنهم شاركوه في ملكه أو في رزقه، أو في خلقه: ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ﴾ [فاطر: ٤٠]، اطلب منهم متحدياً أن يروك الجزء الموجود في الأرض وهم خلقوه؟ فإن قالوا: بنينا قصراً -وقد يقولون: خلقنا- فيقال لهم: هل أنتم الذين كونتم حجارته أو الماء والطين اللازم لبنائه؟ فيكون
ﷺ لا، وكذا إن قيل: نحن صنعنا الصواريخ، وصنعنا الطائرات وصنعنا وصنعنا فيسألون: هل هم الذي خلقوا ذلك الحديد الذي صنعوا منه الطائرة والصاروخ؟ بل غاية ما صنعتموه أنكم حولتم المادة التي خلقها الله من صورة إلى أخرى، فمثلاً: الله خلق القمح وبإمكاننا أن نجعله خبزاً، أو نجعله حلوى، أو نجعله طعاماً، فلا يقال أنا خلقناه؛ لأن الأصل هو تلك الحبة التي لم نخلقها، ولم يخلقها أحد، حتى العقول التي خبزت والأيدي التي زرعت وسقت وطحنت من الذي خلقها؟ الكل خلق الله، ومن ضاع عقله لا يستطيع عمل شيء، لا ذوقاً بلسانه، ولا عملاً بيديه إن هو إلا إنسان فقد العقل، والعقل لا يعطيه إلا الله، ومن فقده لن يشتريه بملء الأرض ذهباً.
ثم استرسل في سؤالهم فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ﴾ [فاطر: ٤٠]، وإذا لم يخلقوا شيئاً في الأرض فهل هم شركاء الله في سماواته؟ كأن خلق الله ستاً وخلقوا واحدة أو خلق الله الملائكة وخلقوا الجن! هيهات هيهات، ما خلقوا شيئاً، ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣]، بل ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣].
قوله: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ﴾ [فاطر: ٤٠].
أم أنزلنا عليهم كتاباً من السماء أمرناهم فيه بالكفر وبالشرك، وبأن يتخذوا لنا شركاء معاذ الله، إن الله لا يأمر بالفحشاء، والاستفهام هنا استفهام توبيخي تقريعي، أي: هذا لا يوجد، بل ما ادعوه، فلم يدعو رسالة ولا نبوة، ولا اتباع كتاب، وإن هم إلا حيوانات شاردة في الأرض، يقولون: إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ولا يهلكهم إلا الدهر، هكذا يزعمون، وهم ما ذكروا في القرآن وفي الشريعة وفي لسان التاريخ الماضي، ومثل هذا القول قال الدهريون، وهم الذين يعبدون الدهر، وما الدهر؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الله في الحديث القدسي: (تسبون الدهر وأنا الدهر)، أي: الدهر هو: الزمان، والله خالق الدهر، وخالق الزمان، وخالق الليل والنهار، فمن سب ذلك كأنه يسب الصانع والخالق، فيكون بذلك قد خرج عن الإيمان وهو لا يشعر، وهو من الكلمات التي قال عنها نبي الله عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً -يقولها دون أن يقصد معناها، ولا يفكر فيها- فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً).
ولذلك ينبغي على الإنسان أن يكون عقله وراء لسانه لا لسانه وراء عقله، وإلا لنطق بالكفر وهو لا يعلم ولا يفهم، ونحن لا نحاسب الناس إلا بما ظهر لنا منهم، فمن جاء وقد أعلن الكفر اعتبرناه مرتداً، فإذا جاء وقال بين يدي الحاكم والقاضي: لم أقصد، لا يقبل هذا منه، ولا يصدق به؛ لأن العبرة بما دل عليه الكلام، وكذلك من جاء وقال: أنا آمنت، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، اعتبر مسلماً، فإن عاد وخرج عنها، وقال: إنما هي كلمة قلتها اعتبر مرتداً، وألزم بالعودة إلى الإسلام، وإلا قتل بسيف الإسلام.
والمعنى: سل هؤلاء: الشركاء الذين دعوتموهم من دون الله وعبدتموهم من دون الله، ما الدليل على أنهم شركاء؟ أخلقوا شيئاً من الأرض؟ أطلعوني عليه وأعلموني علمه وخبره إن كان موجوداً، فإن لم يكن في الأرض فهل شاركوا الله في خلقه في السماوات؟ أم لهم سماء هم خلقوها وهم دبروها؟ وإذا لم يكن ذلك وهو غير كائن، فهل أنزل عليهم كتاب أمروا فيه بالشرك وبالكفر وبالجحود والعصيان؟ هيهات هيهات، لم يكن ذلك، فذلك استنكار توبيخي تقريعي يعود عليهم بالمذمة والهوان، ولذلك القرآن خاطب العقول -فمن لا عقل له لا فهم له ولا إدراك- وبعد ذلك جاءت الأدلة، فلم يقل الله في كتابه من بدايته إلى نهايته: تعالوا اسمعوا وأطيعوا بناءً على أمرهم، وإنما أمروا بذلك بعد أن أمروا: أن تفكروا أن تذكروا انظروا بأعينكم -الأعين الباصرة- تأملوا ببصائركم -البصائر المدركة.
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ [سبأ: ٤٦]، أي: لم أطالبكم إلا بخصلة واحدة: أن تقوموا مفكرين متذكرين دارسين مثنى مثنى، جماعات جماعات، فرادى كل واحد في نفسه، هل محمد مجنون؟ هل الكتاب الذي أنزل عليه صنعه بنفسه؟ وقطعاً لم يكن شيء من ذلك، بل كل ذلك خواطر أوحى بها الشيطان، فلما لم يستعملوا عقولهم ضلوا، ولذلك عندما تفكر أمثالهم أصبحوا السادة بعد الأنبياء عليهم رضوان الله، وعلى الأنبياء سلام الله.