تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)
قال تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر: ٤٢].
يقول ربنا جل جلاله: لقد كان هؤلاء قبل أن يرسل الله لهم عبده ونبيه وسيد الخلق محمداً ﷺ يقسمون فيما بينهم الأيمان المحرجة المغلظة بكل جهدهم وكل طاقتهم على أنواع الأيمان، فيقسمون بالله وبجميع صفاته وبجميع أسمائه الحسنى على أنه إذا أرسل الله لهم رسولاً منذراً كما سبق أن أرسل لغيرهم من أهل الكتاب -كموسى وعيسى اللذين أرسلا إلى اليهود والنصارى- أنهم سيهتدون ويؤمنون، وقد أكدوا ذلك أشد تأكيد، ولذا حكى الله عنهم هذا التأكيد فقال: ﴿لَيَكُونُنَّ﴾ [فاطر: ٤٢] فهم يقسمون ويؤكدون القسم بالله بالنون المؤكدة لهذه اليمين -النون المشددة- إن أرسل الله لهم رسولاً ﴿لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ﴾ [فاطر: ٤٢] أي: فسيكونون أكثر هداية وإيماناً وصلاحاً من إحدى الأمم، ويعنون بالأمم اليهود والنصارى.
وهذا الإقسام بأنهم سيكونون إذا أرسل لهم رسول ينذرهم وأكثر هداية منهم قد ظهر منهم خلافه، إلا بعض من استجاب لله، وكان منهم موحدون كـ ورقة بن نوفل مثلاً الذي عندما جاء الوحي نبينا عليه الصلاة والسلام ذهبت به زوجته أم المؤمنين الأولى خديجة رضوان الله عليها إلى ورقة وقالت له: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقد كان ورقة موحداً، وكان من ضمن من يرجو أن يأتي الله بنبيه، ولكن ورقة عندما جاءه الرسول المبشر المنذر صلوات الله وسلامه عليه بادر وتمنى أن ينصره، وذلك قبل أن يدعو محمد عليه صلوات الله وسلامه عليه صاحبه وزوجته وابن عمه، وقبل أن يدعو عشيرته الأقربين، قال ورقة: ليتني كنت فيها جذعاً -شاباً صغيراً- عندما تدعوهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان فيخرجونك لكنت حينها معك أنافح عنك، وأقاتل في سبيلك وفي سبيل تحقيق هذا الدين.
ومن أجل ذلك ترجم لـ ورقة أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ورقة نادرة من النوادر، ونبذة من النبذ بين قومه المشركين، إذ الباقون عندما جاءهم النذير منهم كما كانوا يتمنون، وكان من أنفسهم يعرفون حسبه ونسبه، فلقد عاش بينهم وعلموا نشأته وتربيته، وعلموا أمه وأباه وجده، وكان الحفيد لسيد العرب وكبيرهم عبد المطلب، ومع ذلك لما جاءهم ما زادهم النذير إلا نفوراً، فكفروا به، وخانوا العهد وحنثوا في الأيمان المجهدة المغلظة التي أقسموها.
فهؤلاء عندما أقسموا ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ [فاطر: ٤٢] فبذلوا الجهد من أنفسهم مقسمين وحالفين بالأيمان بأسماء الله الحسنى وبأيمانهم إن أكرمهم الله بنبيه -ولم يسبق أن أرسل إليهم نذيراً من قبل في تاريخهم الطويل العريض- ﴿لَيَكُونُنَّ﴾ [فاطر: ٤٢]، يؤكدون أنهم سيكونون أهدى من إحدى الأمم التي أنزلت عليها كتب كاليهود والنصارى وممن سمعوا بهم في رحلتهم، وكان لهم رحلتان في الصيف والشتاء، فكانوا يرونهم في الشام وهي أرض النصارى إذ ذاك، ويرونهم في العراق ويسمعونهم وهم يقولون: أنزل علينا كتاب اسمه التوراة وكتاب اسمه الإنجيل، على أنبيائنا موسى وعيسى، فتمنوا وأقسموا لأنفسهم ومع بعضهم إن جاء العرب رسول مبشر ومنذر ليكونن أهدى منهم، أي: أكثر هداية وأكثر طاعة وأكثر إيماناً، فلما جاءهم النذير إذا بهم يكفرون به، ويتحدونه ويصدون عن سبيله، وبذلك كأنه ما زادهم إلا نفوراً عن الحق وعن النذير.