تفسير قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة)
قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: ٤٥].
يقول ربنا جل جلاله: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥]، الإنسان في هذا الكون مصدر السوء والذنب والعصيان والمخالفة، فلو عجل الله عقابه ومؤاخذته وعجل حسابه، ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [النحل: ٦١] الكناية على شيء غير مذكور وإنما سياق الكلام يدل عليه، أي: على الأرض، فالإنسان هو الذي على الأرض، فلو أن الله جل جلاله شاء أن يؤاخذ الناس بذنوبهم ومعاصيهم ومخالفاتهم، من شرك المشرك ومعصية المؤمن لما ترك على ظهرها دابة، أي: بسبب كسب الناس من ذنوب ومعاص وآثام لم يترك على ظهر الأرض دابة.
والدابة: ما يدب على وجه الأرض، فهي تشمل الإنسان وغير الإنسان، والكلام على الإنسان، وإذا أردنا أن نفهم العموم فالأمر واحد، ولو أراد الله هلاك الناس لأفاض عليهم البحار والمياه كما أفاضها على قوم نوح أو كما أفاضها على فرعون وهامان وقومهما، ولو أراد الله هلاك الناس لأمسك القطر فما نزل مطر ولا غيث، فماتت الدواب والأنعام والمواشي، ومات كل حي على وجه الأرض، ولكن الله تعالى رحمة منه ترك لذلك أجلاً مسمى، قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [فاطر: ٤٥]، الأجل المسمى إما إلى يوم القيامة أو إلى أجل مسمى في الدنيا، فقد تكون العقوبة في الدنيا إلا أنها تكون خاصة، وقد تكون عامة في شعب أو أمة، كأن يذلهم بعد عز، أو يسلط أذل خلقه عليهم فيستعمرهم بعد استقلال وسيادة، أو يصيبهم بالجوع والقحط وشح المطر، أو يصيبهم بأنواع من الأمراض والأوبئة وعذاب الله منوع أعاذنا الله وحمانا من كل ذلك بفضله وكرمه، فلو شاء الله ذلك لما وقفت قوة في السماء ولا في الأرض دون ما يريده ودون مشيئته جل جلاله، ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]، فما من قوة في السماوات ولا في الأرض تحول بينه وبين ما يريد، قال سبحانه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥]، ولكن لم يفعل ذلك فأخرهم حلماً منه ورحمة منه (إلى أجل مسمى)، أي: إلى زمن ووقت مسمى عنده، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وآخر الآجال المسماة عنده يوم القيامة.
قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: ٤٥].
لم يقل ربنا إذا جاء الأجل كان بعباده معذباً أو منتقماً، مع أنه لو شاء لعاقب المؤمن والكافر، فالمؤمن يعذب لبعض ذنوبه والكافر لشركه، ولكن كل ذلك أوقفه إلى أجل مسمى، فإذا جاء الأجل، ولم يقل إذا جاء الأجل أهلكهم وقضى عليهم؛ لأنه يعلم ويبصر أن بين هؤلاء موحد، وبينهم المشرك غير الموحد، ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: ٤٥].
فهو الذي يبصر أعمال عباده، فيغفر للمؤمن المستغفر، ويغفر للموحد وقد يغفر له الذنوب كاملة دون عذاب، وقد تقدم ذكر فئات الأمة المحمدية الثلاث: الظالم لنفسه وهو المرتكب للكبائر، والمقتصد المرتكب للصغائر، والسابق بالخيرات الذي لم يرتكب كبيرة، وإذا ارتكب صغيرة بادر إلى الاستغفار، وكلهم كما قال ربنا عنهم: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ [الرعد: ٢٣].
ولذلك يقول ربنا هنا بعد أن أنذر وتوعد وهدد بأنه لولا حلمه وكرمه ورحمته بالمؤمن والكافر ما ترك على ظهر الدنيا من دابة.
قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: ٤٥].
فهو ينظر إلى عمل عباده، فمن كان مؤمناً ومات على الإيمان غفر له، ولربما يكون من السابقين ولم يدخل النار قط، وإن كان من المسرفين فقد يغفر الله له دون حساب ولا عقاب رحمة منه، وقد يحاسبه، ومع ذلك يعذب من شاء الله له أن يعذب، ومآله إلى الجنة، ولن يخلد مؤمن في جهنم أبداً، فجهنم هي في الأصل دار المشركين الكافرين، والجنة محرمة عليهم، والجنة هي في الأصل دار الموحدين، فمن دخلها من أول يوم فهي داره التي تنتظره، ومن تأخر عنها من عصاة المسلمين فمآله إليها لا محيد عنها، فالله قد جعلها الدار الثانية الدائمة ذات النعيم المقيم لكل من مات على التوحيد.


الصفحة التالية
Icon