تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)
قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: ١٢].
يقول ربنا: ((إِنَّا نَحْنُ نُحْييِ الْمَوْتَى)) الموتى قد يكون المراد بها الموت الحسي، أي: الموت بعد الحياة، ولكن سياق الآية يدل على أن الموت هنا هو موت الكفر.
((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى)) بمعنى: نهدي الضالين إلى الصلاح، ونهدي الموتى عن الحق إلى الحياة للحق، كما يحيي جل جلاله الموتى حقاً، فإحياء الموتى بذواتهم وأجسامهم لا يستطيعه أحد إلا الله، ولا يستطيع ذلك من ادعيت له الألوهية، ولا من كان نبياً أو ملكاً أو رسولاً، فكل خلق الله أعجز من أن يخلقوا ذبابة، ولكن الله وحده انفرد بالخلق والتدبير والأمر جل جلاله، وما الرسل إلا مبلغون عنه، وما الملائكة إلا جنده ورسله.
قال تعالى: ((وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا)) أي: هؤلاء الذين ماتوا نكتب ما قدموا ونسجل عليهم، أي: يكتب الملكان المكلفان بهم ما قدموا في حياتهم من كفر أو إيمان، ومن صلاح أو فساد، ومن تقى أو مخالفة، ومن طاعة أو معصية، كل ذلك محصىً في كتاب يجده العبد يوم القيامة عند البعث والنشور، فهذا كتابه بيمينه فهو من أهل اليمين وأهل الجنة، وهذا كتابه بشماله فهو من أهل النار وغضب الله.
كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨]، فلن تخفى على الله خافية، بل يحصي كل شيء سبحانه.
قال تعالى: ((وَآثَارَهُمْ)) أي: نكتب آثارهم.
والآثار: جمع أثر.
وفسروا الآثار هنا بمعنيين: المعنى الأول: أن يموت الميت ويترك أثره فيكتب له، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فالولد الصالح إن ربيته صالحاً يكون صالحاً، فتجده يدعو لأبيه ويقول: دعاني إلى التوحيد فاستجبت، وذلك أثر من آثار الميت، كذلك نشر العلم، فهذا العلم الذي ننشره ونشره أسلافنا من قبل ورويناه عنهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلى جبريل إلى رب العزة، توارثته البشرية أباً عن جد، فكل علم تعلمه إنسان يرجع أثره لشيخه، ومن شيخ إلى شيخ إلى المعلم الأول صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ علي رضي الله عنه: (يا علي! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
فالإنسان من علّمه؟ ومن هداه؟ لقد هداه الله وعلمه بأثر من آثار من قبله، فتكون حسناته في صحائفه، ويكون ذلك أثراً من أثره، إذ يسجله الله -كما يقول هنا- لهذا الميت، فكما يكتب ما قدم من عمل يكتب ما ترك من أثر في الولد والعلم والمال الجاري في الوقف مثلاً يوقفه على العلماء والفقراء والمحتاجين والأقارب، فما من نفع يحصل من هذا المال إلا ويكتب ذلك في أثر هذا الميت حسنة من حسناته، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً)، فهو كذلك سنة من سنته، ومن هنا يقول الله لنبينا عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾ [الضحى: ٤].
فكل ثانية تمضي من الزمن يكتب في آثار رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها إيمان المؤمنين من أتباعه، ودعوة الدعاة من خلفائه ووراثه، فمن يقول: لا إله إلا الله ويدعو إليها الخلق هو أثر من آثار النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه هو الداعي الأول، وهو البشير النذير، وقد تلقى عنه الخلفاء والصحابة رضوان الله عليهم، وعن الصحابة تلقى التابعون رحمهم الله وتابعو التابعين إلى عصرنا، وإلى يوم البعث والنشور.
المعنى الثاني: أن الأثر هو الخطى إلى المساجد: وقالوا: هذه الآية من هذه السورة مدنية، قالوا: وسبب نزولها أن عشيرة بني سلمة كانوا يسكنون في ضاحية المدينة بعيدين عن المسجد النبوي فقالوا: (يا رسول الله! نريد أن نسكن بجوارك لنكون أقرب إلى مسجدك، قال: لا تفعلوا ولا تعروا المدينة -أي: لا تتركوا ضواحيها- فكثرة الخطى إلى المسجد تكتب في آثار المصلي).
ونقول: هذا صحيح، ولكن ليس هذا هو التفسير فقط، فهذا يشمل من سن سنة حسنة، ومن ترك ولداً صالحاً وعلماً نافعاً، ومن ترك مؤلفات ينتفع بها، وترك طلاباً ينشرون العلم، ويهتدون به في أنفسهم، ومن ترك مؤمنين سمعوا قولته، واهتدوا بهديه، وساروا على ما دعاهم إليه، ومن ترك مالاً للفقراء والمحتاجين وقفاً، كل ذلك أثر من آثاره يكتبه الله في صحيفته.
فقوله: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ [يس: ١٢] أي: ما قدموا من أعمال، إن خيراً فخير وإن شراً فشر مدة حياتهم.
قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: ١٢]، أي: في اللوح المحفوظ، كل شيء من الخلق جناً وإنساً، وجميع ما في الكون من أحياء قد كتبه الله وسجله ودونه قبل خلق الخلق بألفي عام، فقد سبق أن قلت بياناً لكلام الله: إن اللوح لوحان: لوح لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولوح يمحو الله ما يشاء فيه ويثبت.
أما اللوح الذي من قبل الله، ولا يراه إلا هو جل جلاله؛ فهذا لا يبدل القول فيه كما قال ربنا.
وأما الذي من قبل الملائكة ينظرون إلى الأوامر والنواهي فينفذونها، فذاك يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت، كأن تكون دعوة صالحة من أب في ظهر الغيب، أو دعوة صالحة من أخ مسلم في ظهر الغيب، أو صدقة يقبلها الله، أو دعاء استجيب، فهذا يغير ما قدر في الأزل، ولكن اللوح الذي من قبل الملائكة يمحو الله فيه الشقاء ويثبت بدلاً عنه السعادة، ويمحو الفقر ويثبت بدلاً عنه الغنى، ويمحو العز ويثبت بدلاً عنه الذل أو العكس، فذاك في اللوح الذي يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
فكل شيء أحصاه الله إحصاءً كاملاً، لا يشذ عنه شيء، لا شاذة ولا فاذة، ولا دقيقة من الأشياء ولا جليلة إلا وحصلت وكتبت في هذا الكتاب، فالإمام: الكتاب المحفوظ من قبل الله، ويسمى أم الكتاب.


الصفحة التالية
Icon