تفسير قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)
قال الله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: ٢٠ - ٢١].
أرسل الله إلى أصحاب القرية رسولين فكذبوهما، فعززهم بثالث فكذبوا الكل وقالوا: لستم مرسلين، إن أنتم إلا بشر مثلنا.
وقد اختلف المفسرون: هل كانوا رسل الله أصالة، أو كانوا رسل عيسى إلى أصحاب هذه القرية، وهي قرية أنطاكية، فجاءوهم وقالوا لهم: آمنوا بالله، وأخلصوا له العبادة، واتركوا عبادة الأوثان، فبلغ ملك أنطاكية خبرهم فدعاهم وقال لهم: ما دليل نبوءتكم؟ وما معجزاتكم؟ وما الذي ستفعلونه لنا لنقبل ذلك؟ فقالوا: نحيي الموتى ونشفي المرضى.
فكان له ولد قد مات منذ أيام، فأحيوه بإذن الله، وكان له مريض فيه مرض مزمن قد طال عليه سنوات، وإذا بهم يشفونه بإذن الله وأمره، ومع ذلك ما زادت هذه المعجزات والدلائل هذه القرية وأهلها إلا جحوداً وكفراناً، وأخذوا يضربونهم ويؤذونهم، ويهددونهم بالرجم وبالقتل إن لم يتركوا دعوتهم لهم إلى الله وإلى ترك الأصنام.
وفي أثناء هذه المحاورة والأخذ والعطاء إذا برجل يأتي من أقصى المدينة وضواحيها، وكان رجلاً يعبد الله في الغار على طريقته، ولم يرسل له رسول، ولا يعرف كيف بعبد الله، وكان مريضاً بالجذام، وقد أهلكه، فجاء إلى هؤلاء الرسل فسألهم: من الذي أرسلكم؟ قالوا: الله جل جلاله، قال: وما علامة رسالتكم ونبوءتكم، قالوا: نحن نشفي المرضى، فقال: أنا مريض فادعوا الله لي بالشفاء، فدعوا الله له فعاد كيوم ولدته أمه، وزال كل مرضه، وأثره، وعاد كما لم يكن مريضاً قط، والتفت إلى هؤلاء وهم يؤذونهم ويضربونهم ويهددونهم وينذرونهم بأنهم إن لم يتركوا هذا فسيرجمونهم وينالون منهم بالعذاب الأليم.
قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ [يس: ٢٠].
أي: فجاء مهرولاً مجهداً نفسه حتى وقف عليهم وحاورهم وأعلن إيمانه وإسلامه بهم.
قال تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٢٠].
أي: التفت إليهم وقال لهم: يا قومي! ويا عشيرتي! اقبلوا ما دعوكم إليه من عبادة الله وحده وترك الأوثان والشركاء من دون الله.
﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: ٢١].
أي: هؤلاء الأنبياء الثلاثة جاءوكم وما طلبوا منكم أجراًَ ولا ثمناً على دعوتهم لكم وعلى رسالتهم إليكم، وقد جاءوا وهم مهتدون، أي: حال كونهم قد هداهم الله إلى الطريق السوي الحق، وإلى عبادة الله الواحد، وبيان أن ما عداه كله أضاليل وأباطيل، لا تضر نفسها ولا تنفعها، فكيف تضر وتنفع غيرها؟ فسألوه: أأنت مؤمن بهم؟ وهل تركت عبادة قومك وآلهة عشيرتك وآمنت بهم؟ فكان جوابه: نعم قد آمنت، ثم قال: ﴿وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ﴾ [يس: ٢٢] وهذا استفهام إنكاري تقريعي توبيخي، ومعناه: أنه يوبخهم ويقرعهم بأنه عبد الله الخالق الرازق الواحد، وترك الأوثان والشركاء، فقال: ﴿وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [يس: ٢٢]، أي: خلقني على غير مثال سابق، والمعنى فما لي لا أعبد الخالق الذي خلقني وإياكم على غير مثال سابق، ونحن جميعاً إليه راجعون؟ فسنموت ثم نحيا ثم سنبعث يوم القيامة إلى الحشر والنشر والعرض على الله، فيحاسبنا على أعمالنا إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فمن يعمل خيراً يلقه، ومن يعمل سوءاً يلقه.


الصفحة التالية
Icon