تفسير قوله تعالى: (يا حسرة على العباد)
قال تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٣٠ - ٣١].
هؤلاء ضربت لهم الأمثال والأشباه لعلهم يتعظون ويعون ويرجعون يوماً إلى أنفسهم ما دامت الحياة تجري في عروقهم، فيؤمنون بالله، ويقولون: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
فهؤلاء ألم يسمعوا ويبلغهم ما جرى على الأمم السابقة الذين مزقهم الله ودمرهم في الدنيا قبل الآخرة، وذهبوا بين غريق ومرجوم من السماء ومصاب بالصرعة وبالصيحة ومن خسفت به الأرض، وسويت به.
وكل أولئك قد قص الله علينا قصصهم من قوم نوح إلى عاد إلى ثمود إلى مدين إلى فرعون وهامان إلى قوم لوط، فقد قص الله علينا كل ذلك، لنتخذ منهم عبرة، لا لنسمع قصة ونسمر عليها، ولذلك القصص لا تذكر الأسماء ولا التواريخ؛ لأن العبرة ليست بذلك، وإنما ذكرت لأخذ العبرة منها، ولذلك لم يذكر هنا أسماء الأنبياء الثلاثة، وكون المفسرين ذكروا لهم أسماء مثل: صادق وصدوق، وشمعون ويوحنا، إلى أسماء أخرى، فهذا لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما نقلوا هذه الأسماء عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وهم في الأصل كانوا أهل كتاب، فذكروا ذلك من كتب بني إسرائيل التي جمعت الغث والباطل والشرك وعبادة عزير، وعبادة العجل، وأنهم جميعاً أبناء الله، كما ذكروا ذلك في الإنجيل وفي التوراة، وجعلوا من التوراة والإنجيل كتابي شرك، وذكروا أنهم أبناء الله، وأن عيسى ابن الله، وأن مريم صاحبة الله، وأن العزير ابن الله، وأن العجل إلههم، وذلك من ضلالاتهم، فضلت أجيالهم من قبل؛ بما زادوا وأدخلوا عليها.
وأما حين جاء الإسلام فلا دين إلا الإسلام، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، ولم يقبل الله سواه، وهكذا بالنسبة لكل العالم من الذين عاصروا رسول الله ﷺ ومن جاء بعده وإلى يوم النفخ في الصور، قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١]، فهو النذير البشير، وهو الرسول المرسل من الله جل جلاله، لينذر ويبشر كل هذه العوالم منذ ظهر فيها في الأرض المقدسة، وقال له الله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
فهذه القصص ذكرت لأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممن عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة حتى لا يصنعوا مثل الأمم السابقة من تكذيب الأنبياء، وتكذيب كتب الله المنزلة عليهم، وتكذيب ما جاء به رسل الله الكرام.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ﴾ [يس: ٢٨].
فلم نحتج لذلك، ولم نحتج في القضاء عليهم لإنزال جيش من الملائكة، وإنما أمرنا جبريل فصاح فيهم صحية فإذا هم خامدون هالكون ميتون، فلا حياة ولا حركة.
ثم قال تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [يس: ٣٠]، في قواعد لغة العرب ونظمها أن (يا حسرتي) كلمة تعجب، من الندم والحسرة، وهي نكرة، أي: يا ما أشد حسرتهم، وما أشد ندمهم، وما أشد عقوبتهم وأنكاها عليهم عندما يبعثون ويجدون أنفسهم قد تأكدوا أنهم كانوا في الدنيا ظالمين، فلم ينتهزوا حياتهم قبل موتهم، ولا شبابهم قبل شيخوختهم، ولا فراغهم قبل شغلهم، ولا صحتهم قبل سقمهم، حتى هلكوا وماتوا على الشرك وعلى الظلم.
قال تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾ [يس: ٣٠] أي: الذين أشركوا وماتوا مشركين في جميع الأمم، من أمة آدم وذريته، إلى أمة إدريس، إلى نوح فمن بعده.
والحسرة أشد الندم، فهم يندمون ويتفجعون على ما فات ولا يعود.