تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون)
قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٣١].
أي: ألم تر قريش والعرب والناس في مشارق الأرض ومغاربها أنهم ليسوا بخالدين ولا دائمين، وأنهم لا محالة ميتون؟ فلم يتساءلوا يوماً لم خرجنا إلى هذا الوجود؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين النهاية؟ وماذا بعد النهاية؟ وقد أجاب الله عن ذلك في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
فما خلقنا هذه الدنيا التي هي مزرعة للآخرة وقنطرة إلى الآخرة، وبرزخ لها إلا لعبادة الله، وكما كنا أطفالاً في المدارس ننجح ونفشل، فهكذا الدنيا مدرسة، فمن نجح يوم القيامة أخذ كتابه بيمينه، وكان من الناجحين، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، ومن لم ينجح وكان راسباً أخذ كتابه بشماله، فكان أهل اليمين في الجنة، وكان أهل اليسار في النار.
ومن غريب ما يتلفظ به اليوم أن هل الضلال والباطل والإلحاد والكفر يقولون عن أنفسهم: إنهم يساريون، ويقولون عن المؤمنين الذين يؤمنون بالله وبرسل الله وبدعوة الله: إنهم يمينيون.
ونرجو أن نكون من أهل اليمين، وأن يكرمنا الله يوم القيامة بالجنة مع أهل اليمين، وأن نأخذ كتابنا باليمين، وأن يجنبنا أهل اليسار في الدنيا والآخرة، فكان قول هؤلاء إرهاصاً لما يستقبل من أعمالهم، إلا من تاب وأناب.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ [يس: ٣١].
أي: من الأمم، ويطلق القرن على الزمن وعلى أهل الزمن، والقرن قيل: مائة سنة، وقيل: أربعون سنة، وأصبح الاصطلاح الجاري أنه مائة سنة، فنقول مثلاً: مضى على الهجرة النبوية ١٤ قرناً، فالقرن مائة سنة.
ومعنى الآية: ألم تروا كم أهلكنا من القرون، فأين الأمم والشعوب الماضية؟ لقد هلكوا مع من هلك، وماتوا وانتهوا وذهب بكفارهم إلى النار، وكان المؤمنون منهم قلة، وهم أهل الجنة، كما قال تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة: ١٣ - ١٤].
فقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ [يس: ٣١] أي: ألم ير هؤلاء الكفار، ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ [يس: ٣١]، أي: أهلكنا كثيراً ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ [يس: ٣١]، أي: من العصور ومن الأجيال ومن الأمم.
﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٣١].
وهذا ينفي ما ادعاه أهل التناسخ من أنه في الدنيا تنتقل الروح من جسد إلى جسد، وأنهم يخرجون من الدنيا، فإن كانوا صلاحاً عادوا لجسد صالح، وإن كانوا فساقاً عادوا لجسد فاسق، أو بعثوا في شكل قرد أو كلب، وتلك عقائد الوثنيين وعقائد المجوس ممن يقولون بتناسخ الأرواح، والحق أنه لن يرجع إلى الدنيا أحد ممن مات فيها إلى أن يرجع الكل يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم البعث والنشور.


الصفحة التالية
Icon