تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها)
قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٦].
يقول تعالى: (سبحان) يسبح نفسه وينزهها عن قول الكافرين والجاحدين، أو يتعجب، والعربي إذا أراد العجب قال: يا سبحان الله! أو سبحان الله! فإذا كانت بمعنى العجب فهي صحيحة، وإذا كانت للتسبيح والتمجيد فهي صحيحة.
فينزه الله نفسه ويتعجب: أمع كل هذا الذي تراه العين وتسمعه الأذن ويحسه البدن لا يزال هؤلاء على الكفر والجحود والفرار عن دين الله ودين رسوله ﷺ وكتاب الله المنزل ورسوله المرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! يا عجباً لهؤلاء! أو أن الله يعظم نفسه، ويعلمنا أن نسبحه جل جلاله، ونصفه بكل كمال وننزهه عن كل نقص، وهو ربنا جل جلاله لا يشبه أحداً من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، فليس كمثله شيء، ولم يكن له كفواً أحد.
والأزواج هنا: الأصناف والأنواع.
فالله خلق من كل صنف من مخلوقاته زوجين، مثل صنف البشر، وصنف الجن، وصنف الدواب، وصنف الحيوانات، وصنف الطير، وصنف الحشرات، وصنف الجمادات جبالاً ووهاداً وبراراً وبحاراً وسماءً وأرضاً، وخلق أول ما خلق الماء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق بعد ذلك الأرض، وخلق من الأرض الكل، فأنبت من الأرض الإنسان والحيوان والنبات والثمر، وخلق أبانا آدم من تراب، وأمنا حواء من ضلع من أضلاعه، ثم بعد ذلك خلقنا نحن من نطفة، وخلقنا ذكراً وأنثى، وهكذا خلق كل الخلق، كما قال ربنا: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ﴾ [يس: ٣٦].
وخلق السماء وكانت جزءاً من الأرض.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠]، وهؤلاء الضالون من أوروبا وأمريكا صعدوا إلى القمر، وأنزلوا بعض ترابه وحللوه فوجدوا أن التراب هي مادة القمر.
وقد أخبرنا الله منذ ألف وأربعمائة سنة وعلمنا أن السماء والأرض كانتا رتقاً، أي: قطعة واحدة وجزءاً واحداً، ففتقهما، أي: خلق منها السماء، وخلق السماء الثانية من الأولى، والثالثة من الثانية، وهكذا، والكل من الأرض من التراب.
قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [يس: ٣٦].
وكذلك الله تعالى خلق منا نحن أزواجاً، فخلق من أبينا آدم زوجته حواء، ثم خلق منهما بواسطة النطفة ذرياتهما وأولادهما، وتزاوج الذكور والإناث، وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
قوله: ﴿وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٦].
أي: خلق الله في الأرض خلقاً بعضه في قعر البحار، وبعضها في السموات مما لا نعلمه، ولم يره الآباء والأجداد ولم يحدثونا عنه البتة؛ إذ الدخول إلى قعر البحار إن تيسر في جهة لم يتيسر في الباقي، وإذا تيسر في الجهة التي ليست شديدة العمق فإنه يكون في لحظات لا تتجاوز وقتاً قصيراً، فما في البحار من خلق لا يعلمه إلا الله.
وقد قال ربنا: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [الشورى: ٢٩]، أي: ما أودع في السموات وفي الأرض من دابة، والدابة ما يدب على وجه الأرض، ومعناه: أن في الأفلاك والسموات العلا خلقاً من خلق الله تدب على الأرض، وليست هذه صفة الملائكة، إذ الملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وما شاء الله بعد، ولا تطلق الدابة إلا على من دب على وجه الأرض، على اثنتين أو على أربع أو على أكثر من ذلك.
قال تعالى: ﴿وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٦] فقد خلق من الخلق ما لا نعلمه نحن ولا آباؤنا ولا أجدادنا، وإن عرف ذلك البعض فلا يعلمه البعض الآخر، ولا شك أن الكثير من خلق الله لا يعلمه جميع الخلق، والله يلفت أنظارنا لنعلم ذلك، ونزداد لله تسبيحاً وعبادة وإيماناًً بقدرته، وأنه القادر على كل شيء، فهذه الأزواج والأصناف من أنواع المخلوقات الذي خلقها ورزقها ودبرها الله جل جلاله، ولم يخلقها رئيس ولا شريف.


الصفحة التالية
Icon