تفسير قوله تعالى: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون)
قال تعالى: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس: ٤٢].
كانت سفينة نوح أول سفينة صُنعت في الأرض، حيث ألهم الله نوحاً لينجو عليها هو ومن معه من المؤمنين، وحمل من كل شيء زوجين؛ ليجدد الله الحياة على الأرض كما خلق آدم وجعل منه الأصلاب والذرية، فغرق من غرق، وجدد الله الحياة في هذه الأرض بما حملته سفينة نوح.
ومن هنا عندما نتكلم ونقول بأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل لنا الحج وما فيه من المناسك إنما هي ذكرى لوجود إسماعيل وذكرى لولادته وخروجه، فإسماعيل جاء به أبوه مع أمه وتركه رضيعاً إلى أن كاد يموت عطشاً، فلم يجد ماء ليشربه، فذهبت أمه وهي تسعى بين الصفا والمروة لتبحث عن ماء، إلى أن رأت طيراً يُحلّق فوق الوليد فقالت: لا يكون الطير إلا حيث الماء، فجاءت تجري فوجدت ماء، فلو مات إسماعيل لما كان محمد، فإسماعيل هو الجد العالي بعد إبراهيم لنبينا عليه الصلاة والسلام، فكان السعي بين الصفا والمروة سبعاً نُسكاً من مناسك الحج وذكرى لذلك؛ لأن الله تعالى لو أمات إسماعيل لما كان محمد.
ورأى إبراهيم أنه يذبح ولده، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢] فلو ذُبح إسماعيل لما كان محمد، وكان هذا في منى فأصبح رمي الجمرات في منى ذكريات، كلما رمينا وسعينا نذكر أنه لو ذهبت حياة إسماعيل لما وجد محمد، ولو مات إسماعيل في المرتين لما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وهذا من ذاك، فلولا أن الله أبقى آباءنا الذين آمنوا وأسلموا مع نوح وحُملوا في السفينة لما وجدنا نحن، فنحن حُملنا مع آبائنا ذراً في أصلابهم، إلى أن جاء هذا الوقت فخُلقنا وخرجنا إلى هذا الوجود.
ومن هذا قول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٩] فلا يزال الله تعالى يقلبه -كما قال النبي عليه الصلاة والسلام- من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة حتى خرج مصفى صلى الله عليه وسلم، وهذا كذلك من ذاك، حيث بقيت ذرية نبينا من أبيه إلى عدنان إلى إسماعيل إلى إبراهيم إلى نوح؛ وهذه الأصلاب تتناقل نسمته، إلى أن خرج ﷺ إلى هذا الوجود، سيد الأنبياء والرسل وخاتمهم عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس: ٤٢].
أي: وخلق لنا بعد ذلك السفن على مثال سفينة نوح، فأصبحنا نقطع بها البحار والقارات ضرباً في الأرض للتجارة وطلب الرزق وطلب العلم، ولمعرفة آلاء الله في الأرض، ولمعرفة ما تبقى من الأولين وما قطع ممن خرّبهم الله وعاقبهم ودمّرهم؛ مما يزيد المؤمن توحيداً وإيقاناً؛ وهكذا السفن أداة لذلك.
وفُسِّرت كذلك ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس: ٤٢] أي: خلق الإبل، والعرب تقول للإبل قديماً: سفن الصحراء، أي: ما تفعله السفن في البحار كانت تفعله الإبل في البراري.
ولكن الله قد قال لنا بعد ذلك -وهذا من المعجزات القرآنية التي أدركناها نحن ولم يدركها آباؤنا، وما أكثرها- حيث قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ [التكوير: ٤] والعشار: الإبل الحوامل، وكان مفسرونا السابقون يفسرون هذه الفقرة من الآية الكريمة أنها ستنتهي الإبل، وبانتهائها ينتهي كل حي؛ إذ معنى ذلك أنه لا تبقى رحلة، ولا يبقى سفر، ولا يبقى من يضرب في الأرض! وليس الأمر كما ظنوا، فنحن نعيش اليوم والعشار قد عُطّلت، والدنيا لم تنته، نحن نعيش في بلد النوق والإبل والجمال؛ لكن من منا ركبها؟ من منا تنقّل عليها؟ آباؤنا كانوا يقطعون ما بين مكة والمدينة في عشرة أيام أو تزيد، ونحن نقطع المسافة الآن في نصف ساعة، ونحن طائرون في الجو، والعشار عُطّلت؛ فلم تجد إلا ما كان من بعض الجبال التي لم تصلها السيارات بعد، ولم تُصلح طرقها في أرض الإبل والنوق من مثل المغرب.
وقد أشار الله إلى ذلك في آية أخرى، عندما تعطل الإبل وينتهي عملها، فذكر لنا أنواع المركوبات فقال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] فقد قال حبر القرآن ابن عباس رضي الله عنه: ما عطف الله ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ على أنواع المركوبات حتى كان من جنسها.
قال هذا فهماً ووعياً، وقد صح هذا بعد ألف وأربعمائة عام أو قريب من ذلك، فنحن الآن نركب الخيل والحمير والطائرة والصاروخ والباخرة وجميع أنواع المركوبات مما كان بعضه لا يعلم عند أجدادنا، ومع ذلك نبقى نقول: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨].
ومن أنواع المركوبات ما نعرفه اليوم مما لم يكن يخطر ببال أحد من آبائنا قبل، وإن كان النبي أيضاً قد أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام، وأن عيسى عندما ينزل إلى الأرض في آخر الزمان سينزل على دين محمد صلى الله عليه وعلى آله، فيأتم بإمام المسلمين، ويحج حج المسلمين، وأخبر أنه سيأتي مكة على غير الغلف، والغلف جمع غلوف وهي: الإبل الرواحل، وكونه لا يحج على الغلف معناه أنه يحج على الطائرات، وقد تكون الطائرات في وقته نوعاً آخر أسرع من هذه الموجودة الآن.