تفسير قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له)
قال الله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ [يس: ٦٩].
لقد ذهل كفار قريش من فصاحة القرآن وبلاغته، وما أتى به من معان، والعرب كانوا أفصح الناس وأبلغ الناس شعراً ونثراً وفهماً وإدراكاً، فكان كفار قريش يأتون ليلاً يدورون ويحيطون ببيت النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتهجد ليلاً بالقرآن، فينصتون ويسمعون وهو لا يدري.
وفي يوم من الأيام فكر في هذا أبو جهل، وفكر في هذا عتبة بن ربيعة، وفكر فيه أبي بن خلف وغيرهم من صناديد قريش، وإذا بهم يجتمعون اتفاقاً كل جاء لينصت، فعندما كشف بعضهم البعض قالوا: لنقل الحق، قد سمعنا جميعاً ما يقول هذا، فاجتمعوا عند الكعبة، وذلك كان مكان اجتماعهم، فقالوا: ماذا رأيتم فيما يقول محمد ويكرره ويعيده؟ فقال بعضهم: هذا شعر، وقال آخر: لا والله ما هو بشعر، لقد قرأت الشعر وقلته ورويته بجميع أنواعه، فما هو به.
وقال آخر: هو النثر المقفى.
وقال آخر: لا والله ما هو به، لقد نثرت وقفيت وحفظت الخطب وسمعت الخطباء والبلغاء، فما هو بذلك.
فقال آخر: هو كهانة.
فقال غيره: الكهانة تكون قولاً في أغلبه لا معنى له، وهذا ليس مقفىً دائماً، وليس مطلقاً دائماً، وليس شعراً، وما أراه بالكهانة.
وقال آخر: هو سحر، وبعد ذلك أوحى لهم الشيطان أن يتفقوا على أنه كهانة، وكان قد قال منهم من قال: والله إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وبقي الكثيرون يقولون: هذا شاعر، فقال الله لهم مكذباً: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أي: لم نعلم محمداً الشعر، وإنما علمناه البلاغة والفصاحة والفهم والإدراك، وقصصنا عليه خبر من سبقه من الأمم السابقة، من أطاع ومن عصى، من آمن ومن كفر، وبماذا قابلهم الله، وقصصنا عليه علم الأنبياء السابقين، أما الشعر فلم نعلمه إياه.
وقد علم الله نبيه ﷺ جميع العلوم والمعارف وحياً وإلهاماً، ولكن الشعر لم يعلمه، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يريد أحياناً أن يستشهد ببيت من الشعر فيقوله مكسراً، لا يقوله كما هو، فيكون أبو بكر بجانبه أو عمر أو أحد الأصحاب، فيقول له: يا رسول الله! ما هكذا قال الشاعر، فيقول عليه الصلاة والسلام: المعنى واحد، كما يقول الشاعر: كفى بالشيب والإسلام، والنبي ﷺ كان يقول: كفى بالإسلام والشيب، فيقوله له أبو بكر: بل قل: كفى بالشيب، أي: كفى به نذيراً، فيقول عليه الصلاة والسلام: المعنى واحد، لست بشاعر.
ومع ذلك كان يخرج منه أحياناً قول ليس شعراً، ولم يقصد به أن يكون شعراً، ولكن تجده على قياس البحور وموازينها، وقد يوجد هذا أحياناً في القرآن وليس هو بشعر، ففي القرآن: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ١ - ٤].
وعندما كان النبي ﷺ في غزوة حنين، وظن الناس أنه قتل، وأشاع أعداؤه أنه قتل، ولكنه كان في اللأمة لا تظهر منه إلا عيناه، فرفع صوته ﷺ يدعو الذين فروا: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فانتسب إلى عبد المطلب، وهي نسبة صحيحة؛ لأنه كان أشهر من أبيه الذي مات شاباً صغيراً.
وقال مرة وقد جرحت إصبعه عليه الصلاة والسلام: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت).
ولم يكن ذلك شعراً ولم يقصده، وكان إذا تمثل ببيت أو بشطر بيت من الشعر، كان يقوله وكأنه نثر، ويقول: ما أنا بشاعر.
فقوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ): أي: لا يليق به؛ لأن الشعر قد أذله الشعراء؛ لأنهم صاروا يشحذون ويتسولون به، وصاروا يهجون به، ويتغزلون به في الأعراض، ويكشفون فيه عن المخدرات ذوات الحجاب، فكان الشاعر يأتي إلى القبيلة فينذر كبيرها، فإما أن يعطيه ويهب له وإما أن يهجوه، وهكذا أصبح الشعر كالصحافة اليوم، فالصحفي إن لم تساعده وترضه هاجمك وتنقصك، وقال عنك ما ليس فيك، فصحافيو اليوم هم شعراء الأمس، وهذا لا يليق بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ولو لم يمدح مع المداحين، ولو لم يتغزل مع المتغزلين، وحاشاه من كل ذلك عليه الصلاة والسلام.
والشعر كذلك لا يليق بالعلماء، فقد كان الإمام الشافعي أعلم الأئمة الأربعة لغة وأبلغهم لساناً، وأفصحهم، وانفرد من بينهم؛ لأنه كتب كتبه ومؤلفاته، بينما غيره لهم رسائل لا تكاد تذكر، أما الإمام الشافعي فقد كتب كتابه المسمى (الأم) في سبع مجلدات، وطبع أكثر من مرة، وهو قطعة من الأدب الرفيع، زيادة على ما فيه من حلال وحرام وآداب ورقائق، وأدلة تؤكد ذلك من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يقول أحياناً بيتاً وبيتين، وكان يقول: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد إذاً: الشعر يزري بالعلماء وينقص من مقامهم ورتبتهم، خاصة إذا بادروا إلى مديح من لا يستحق المدح، وأما ما سوى ذلك كمدح الإسلام والإشادة به ومدح الأخلاق والدعوة إلى الجهاد، وهجو الكفار وأعداء الإسلام، فقد كان له عليه الصلاة والسلام شعراء مختصون به، كان له كعب بن مالك وحسان بن ثابت وغيرهما من الشعراء جماعات بين مقل ومكثر، وكان منهم كعب بن زهير الذي مدح الرسول ﷺ في قصيدته المشهورة.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أثني عليه ومدح يعجبه ذلك، ويشجع عليه، ويجازي عليه بالهدايا الكبيرة التي يعطيها عطاء من لا يخشى الفقر، وكان ينصب لـ حسان بن ثابت منبراً في المسجد النبوي، ويحرضه على الكفار، ويقول له: (اهجهم فداك أبي وأمي، فإن روح القدس معك).
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).
وقال: (كاد الشعر أن يكون سحراً).
لكن النبي عليه الصلاة والسلام لا يليق به أن يقول الشعر ولا ينبغي له، فهو أعلى مقاماً وأسمى رتبة، وكذلك لا يليق بخلفائه من العلماء والدعاة إلى الله، إلا أن يكون من هؤلاء دعوة إلى الله وهجواً وتمثيلاً بأعداء الله.
ولذلك الشعر الذي كان مذموماً والذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير له من أن يمتلئ شعراً) هو شعر الغزل وهتك الأعراض ومدح الكذابين والضالين والفاجرين، الشعر الذي لا يتفق مع الحقائق.
أما الشعر في وحدانية الله جل جلاله، والذي في الدعوة إلى الله وعبادته، وفي التحمس للجهاد وبذل الأرواح رخيصة في سبيل الله، فذاك من الكلام الذي حض عليه عليه الصلاة والسلام، كما فعل ذلك كعب بن زهير عندما قال في قصيدته الشهيرة: بانت سعاد: إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول فقام عليه الصلاة والسلام من مجلسه وأهداه رداءه، واشتراه معاوية بعد ذلك من أولاد كعب بن زهير في زمن خلافته فجعله رداء خلافة، فكان يلبسه للزينة أيام الأعياد، وأيام استقبال الوفود وكبار القوم، وتوارثه بعده ملوك بني أمية، وخلفاء بني عباس، وملوك بني عثمان، ولا يزال ذلك محفوظاً في متاحف آثار إسطنبول في أرض تركيا، والثوب قد أخذ في أن ينتهي، لكن كانوا كل مرة يلبسونه بثوب ثم يهترئ، ثم يلبسونه ثوباً، إلى أن أصبح هكذا وكأنه فراش، ولكن أصله محفوظ ضمن ذلك، وقد أكد صحة ذلك ابن حزم في القرن الخامس، وأكده في عصرنا أحمد زكي الذي كتب في الآثار النبوية كتاباً على صغره يعتبر من أوثق الكتب ومن أسماها، ومن أكثرها حقائق مستقصاة فيه.


الصفحة التالية
Icon