تفسير قوله تعالى: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق)
قال الله عنه: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ﴾ [ص: ١٨]: أي: من معجزات داود أن الله هيأ له الجبال تسبّح وتذكر الله معه، وتوحّده معه حيث سار من الأرض.
﴿يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ﴾ [ص: ١٨].
في العشي: في المساء إلى الغروب، وفي الصباح منذ الإشراق إلى المساء.
وكون الجمادات توحّد وتسبّح هذا من المعلوم ضرورة في السرائر، وقد قال الله عن الأشياء كلها: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤] (وإن من شيء) أي: جماداً كان أو متحركاً، حيواناً كان أو إنساناً، ملكاً كان أو جناً، كل ذلك يسبّح الله ويعبده ويوحّده، ولكننا لا نفهم تسبيحهم ولا لغتهم ولكن الله يفهم لغتهم وتسبيحهم لداود وولده سليمان عليهما وعلى نبينا السلام، كما أفهم ذلك لنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد كلّمه الجذع والضب والجمل والجماد.
قال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ﴾ [ص: ١٨] ومن المعلوم أن لداود صوتاً كان إذا سمعه الطير والشجر والحجر حنَّ وأنّ إليه، وسبّح بتسبيحه، وذكر الله بذكره، وقد مر رسول الله ﷺ ليلاً على أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن، فوقف برهة ينصت إليه معجباً بصوته وتلاوته وبتدبّره للتلاوة والقراءة، فلما أصبح الصباح قال له عليه الصلاة والسلام: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) أوتي جمالاً وحلاوة في الصوت كأنه صوت ومزمار داود، وقد قال ربنا: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ [فاطر: ١] وقُرئ ﴿يَزِيدُ فِي الْحَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ [فاطر: ١] هكذا كان داود، فإذا أخذ يتلو الزبور ويذكر ربه ويوحده ويسبحه أو يبكي على ذنبه أو زلّته فهو يتلو ويتغنى بتلاوة ما أُنزل عليه من كتاب الله الزبور، ومن تسبيحه وتحميده، كان يسبّح معه -حال تسبيحه- الطير والجماد، والشجر والحجر، وكل من في الأرض ممن يسمع صوته ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ﴾ [ص: ١٨] في العشي مساء، وفي الإشراق صباحاً.
قال عبد الله بن عباس: (ما كنت أدري ما صلاة إشراق حتى قالت لي أم هانئ: إن النبي ﷺ يوم الفتح دخل عندها فاغتسل وصلى ثمان ركعات ضحى وإشراقاً، وقال لها: يا أم هانئ! هذه صلاة الإشراق).
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي ﷺ ثلاث وصايا: قال: لا تنم إلا على وتر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، وصل ركعتي الضحى).
وصلاة الضحى: هي ثمان ركعات في الأكثر، وركعتان في الأقل، وهي سنة مستحبة عند جميع المذاهب، ووقتها عند شروق الشمس وصعودها في الأفق، وتعميمها على الأرض وهاداً وجبالاً، يقال لغة: شرقت الشمس أي: طلعت، وأشرقت الشمس: أي ابيضّت، وصعدت في الآفاق وأنارت الجبال والوهاد: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ﴾ [ص: ١٨].


الصفحة التالية
Icon