تفسير قوله تعالى: (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة)
قال تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢٠].
جمع الله لداود بين الملك والنبوة، وشد ملكه وآزره وقوّاه، وجعل له من مظاهر العفّة والقوة والمال وكثرة الجند ما كان على بابه من الحرس والجند (٣٣٠٠٠) صباحاً و (٣٣٠٠٠) مساء، ولا يأتي الشخص الدور لحراسة داود إلا مرة في العام قالوا: لكثرة جيوشه وحرسه وجنده، وما أعد الله له وهيأ وذلّل من غنى ومال وسلطان وجاه في قيام ملكه، وقيام رسالته، فكان قوياً في ملكه ورسالته وعبادته، ذا أيد كما وصفه الله جل جلاله.
وقال بعض المفسّرين في تفسير ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ [ص: ٢٠]: جاءه خصمان يشتكي أحدهما الآخر، وقال المشتكي: إن فلاناً غصبني بقري، فأرجأه إلى اليوم الثاني، وإذا بهما يأتيانه، فيأمر داود بقتل المدّعي الذي أُخذت بقره، فقال المشتكي: يا نبي الله! أنا المظلوم، وأنا الذي غصبت بقري، فكيف تأمر بقتلي؟! قال: فلقد أمرني الله بقتلك، فانظر ماذا صنعت؟ قال: إن كان ولا بد فهو لم يأمر بقتلي لهذه الشكوى، ولكنني سبق لي أن قتلت أبا هذا الذي غصب بقري، ولم يعلم بذلك إلا هو، فقد آن أوان القصاص والعقاب على فعلي هذا.
عند ذلك اشتد ملكه، وأصبح جميع رعيته وأتباعه يهابونه، ويخشون أن يكتموه ذنوبهم ومعاصيهم التي اكتشفها بوحي من الله، فأمر بقتل الجاني على جناية سبقت منه لا على الذي اشتكى منها وهو منها مظلوم.
وإن صحت هذه القصة فهي لا تتنافى مع عموم معنى الكلمة ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ [ص: ٢٠] أي: شد ملكه بالجاه وبالجند وبالحكمة والسلطان، وبقوة المال والمعرفة للقضاء والأحكام.
﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢٠] أي: أكرمناه بمعرفة الحكمة والصواب والرسالة والنبوة، وقد قال الله تعالى لأمهات المؤمنين: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: ٣٤] وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب حديث النبي ﷺ ثم توقف؛ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ما بالك لا تكتب؟ فقال: يا رسول الله! لقد قالت لي قريش: أتكتب عن رسول الله كل ما يقول وهو بشر ينطق بالرضا والغضب؟! فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: اكتب فوالله لا يخرج منه إلا الحق) وهو الحكيم صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي جوامع الكلم.
قوله: ﴿وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢٠].
فصل الخطاب: الفصل في القضاء ومعرفة الحكم، وتمييز الظالم من المظلوم، ومعرفة الحقوق، وأين ذهبت؟ ومن غصبها؟ ومن غُصبت منه؟ وهي علم قائم بنفسه.
وقد يكون الرجل عالماً كبيراً ويكون مغفلاً فلا ينتبه للظالم من المظلوم، وبالتالي لا يولى لأخذ الحقوق من الظلمة، وقد يكون الرجل قليل العلم ولكنه أُعطي معرفة الظالم من المظلوم حكمة وبداهة وفطرة، وهذا كثير في تاريخ القضاء والقضاة، وفي تاريخ المسلمين القديم والحديث، فكان داود قد أُعطي فصل الخطاب، وما هو فصل الخطاب؟ قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: هو الحكم بالبينة على المدّعي واليمين على من أنكر.
وقيل: فصل الخطاب: إرجاء الدعوى زمناً لعله يهتدي ويميّز الظالم من المظلوم، خاصة وقد يكون الظلمة لسنين فُصحاء بباطلهم، ويكون المظلوم عيي اللسان في بيان حقه وإظهاره، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (لعل أحدكم يكون أبين بحجته من أحد، فأحكم له بنحو ما أسمع، فمن حكمت له وليس بحق فإنما أقطع له قطعة من نار) أي: الحكم يكون حسب القول، وحسب ظاهر الكلام، فإذا عجز صاحب الحق عن أن يظهر حقه فحُكم له بمقتضى ذلك فإنما هي قطعة من النار، وليس المراد أن يحكم الحاكم بعد تبيين ذلك الحق له وهو يعلم بطلانه، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يصدر هذا عنه قط في حكم من الأحكام، ولا قضاء من الأقضية، ولكنه يقول ذلك مشرّعاً لأتباعه وأمته؛ حتى لا تغتر بالقول، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).
من بعض البيان والفصاحة والبلاغة سحر يسحر به المتكلم سامعيه، فيموه الحقائق، ويظهر الحق باطلاً، والباطل حقاً، فيسحر الأسماع كما يسحر غيره الأعين.
﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢٠] معناه: أعطى الله داود الصواب في القول والحكم والشكوى، بحيث يكون خطابه وحكمه فصلاً يرجع سامعوه إلى الصواب؛ لأنهم يرون فيه حقوقهم، ويرون فيه عودة ما ظلموا فيه، وزوال الظلم عنهم.