اختلاف المفسرين في رفع إدريس هل هو حسي أم معنوي
قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٧].
قال البعض من المفسرين: إنه رفع معنوي وإن كان في الواقع حسياً، فقد رفع إلى الجنة حيث يعيش اليوم، ومنذ توفي وهو في الجنان.
وقال قوم: ليس هو في الجنان، ولكن المقام العلي نبوءته ورسالته ورحمة الله له، وإلا فهو ميت في الأرض.
ورويت هنا إسرائيليات مصدرها كعب الأحبار ووهب بن منبه، وقد تسللت هذه الإسرائيليات إلى كتب التفسير والعلوم مطلقاً.
روى ابن عباس عن كعب بسند لم يصح: أن إدريس خرج مرة في يوم مشمس شديد حره، وإذا به يعود وقد وجد من تلك الشمس وشعاعها حراً وألماً ووجعاً، فقال: يا رب! إن كان يوماً لم أحتمل فيه شدة الشمس وشعاعها وحرارتها، فكيف بالملك المكلف بحملها وهو يحملها في يوم كان مقداره خمسمائة عام؟! فخفف الله على هذا الملك حامل الشمس، فشعر بذلك فقال: ربي! ما الذي حدث، شعرت اليوم بخفة حملي لهذه الشمس؟ قال: نبي من أنبيائي من البشر اسمه إدريس دعاني أن يُخفف عنك فاستجبت له.
قال: يا رب! اجمعني به، فاجتمع به، وقال: يا إدريس! أنا ملك من ملائكة الله، أنا المكلف بحمل الشمس، ما حملك على الدعاء بالتخفيف لي؟ قال: شعرت بثقلها وحرها وشدة إشعاعها، فقلت: إذا عجزت أنا عن وجودي فيها اليوم فكيف بمن يحملها؟ فقال: لك عندي طلب، فاطلبه مني أفعله لك.
قال: ألك صلة بملك الموت؟ قال: نعم.
قال: اطلب لي من ملك الموت أن يؤخر أجلي؛ لأزداد طاعة وعبادة لربي وتقرباً، وعلى ذلك احملني من الأرض المكلف بها، وخذني إلى أعلى مكان.
قال: آخذك إلى السماء الرابعة من السماوات فحمله، وبينما هو يستأذن الملائكة المكلفين بأبواب السماء الرابعة وجد ملك الموت، فقال: عنك أبحث، جئتك شفيعاً لإدريس نبي الله بأن تؤجل موته؛ حتى يزداد قرباً من الله وطاعة، فانظر متى يموت، فنظر في السجل الذي بين يديه.
وقال: كان ينبغي أن يكون في هذه الساعة ميتاً، ولكن العجب عندي أنني مأمور بأن آخذ روحه في السماء الرابعة.
فقال: هو ذا، وإذا به يلتفت إليه فيجده ميتاً، فيلقي به في السماء الرابعة حيث مات.
وقال قوم: نبيان من أنبياء الله لا يزالان حيين في الأرض، ونبيان حيان في السماء، أما النبيان الحيان في الأرض: الخضر وإلياس، وأما النبيان الحيان في السماء: فعيسى وإدريس، فهذا قول بأنه استجيب له وبقي حياً، وسيبقى إلى يوم النفخ بالصور يوم لا تبقى نفس منفوسة.
على أنه من الثابت في قصة الإسراء النبوية أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أسري به إلى السماوات السبع إلى سدرة المنتهي، ثم إنه كان قاب قوسين أو أدنى، فاجتمع بإدريس في السماء الرابعة، وهل اجتمع به حياً أو ميتاً، على كل اجتمع بروحه، والروح لا تموت.
والأمر كما يقول الحسن البصري: خلقنا للأبد، وإنما هي نقلة من دار إلى دار، كمن يرتحل في الأرض من حي إلى آخر، ومن قطر إلى آخر، فنحن ننتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة إلى دار البقاء.
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٦ - ٥٧] فنقول: معنى العلو هنا: معنوي وهو حسي، أما المعنوي فهو قد رفع برتبته وبنبوءته وبرسالته إلى أن كان بها في المقام العلي بين الخلق، وهو علو حسي بأن رفع إلى السماء الرابعة ولقيه هناك نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو رفع وعلو حسي ومعنوي معاً.


الصفحة التالية
Icon