تفسير قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)
قال تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: ٢٦].
يخاطب ربنا داود بأنه جعله خليفته في الأرض، ولاشك أن الأنبياء جميعهم خلفاء الله في الأرض يأمرون بأمره، وينهون بنهيه، ولم يكن ذلك من أحد من البشر سواهم، وهذا أبو بكر كل من كان يناديه: يا خليفة الله يقول: لست خليفة الله، ذاك محمد، إنما أنا خليفة رسول الله، وأنا راض بذلك؛ لأن الخلافة عن الله لا تكون إلا في حق وبحق، ولم يكن ذلك إلا للأنبياء المعصومين ورسل الله المقربين، فهم يأمرون بأمر الله، وينهون كذلك، وكما قال ربنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣ - ٤] فكلام نبينا عليه الصلاة والسلام ككلام الأنبياء قبله، كله وحي من الله قولاً وفعلاً وإقراراً، ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ [ص: ٢٦].
وقبل ذلك جعل الله آدم أبا البشر خليفته، قال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠].
فكان آدم وكان الأنبياء من ذريته بعده: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: ٢٦] أي: قم بالحق وبالعدل الذي به قامت السماوات والأرض، لا تظلم الناس حقوقهم، ولا تدع البغي بينهم، أحسن للمحسن منهم، وعاقب المسيء منهم، خذ الحق من الظالم، وأعد للمظلوم حقه حتى يرضاه وتقر عينه، أدب الظالم حتى يرتدع أمثاله من الظلمة، وليكن حكمك بينهم بالحق الذي أوحاه الله لك.
﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾.
لا يكن ذلك في زيادة حق أو نقصانه، ولا تتبع هواك وغرضك، ولا تتبع قرابة قريب أو صداقة صديق، أو تتأثر بعداوة عدو، بل اطلب الحق لذاته وخذه من أبوابه، وأعده للمظلوم، واحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.
والهوى: رغبة النفس وشهواتها ورغباتها الغير راجعة للحق أو البرهان، والغير راجعة للعقل، وإنما ما يسر هوى الإنسان وشهوته يتبعها ولو كان فيها ظلم أو بغي، فلذلك الهوى دائماً معه الشيطان، والإيمان معه الله جل جلاله.
قوله: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ [ص: ٢٦] أي: لا تتبع هواك ونزواتك وشهواتك، وقراباتك أحسن الله إليك وعداواتك، فإن شغلك بذلك يكون سبباً للضلال والتيه عن الحق وعن أمر الله، فتنتقل من هاد إلى ضال.
قوله: ﴿فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦] أي: عن الطريق الحق الموصل إلى رضا الله وطاعته، وإلى رحمته ورضاه في الدنيا والآخرة.
قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦].
أي: الذين يضلون بعيدون عن الحق، يتركون الطريق السوي، وينتقلون من الهدى إلى الضلالة.
قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: ٢٦].
أي: لهم العذاب الشديد لنسيانهم يوم الحساب، والباء: باء السببية اتصلت بـ (ما) المصدرية، وسبكت معها، والتقدير: بنسيانهم يوم الحساب.
و (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)؛ لأنهم عندما ضلوا وحكموا بالهوى نسوا يوم عرضهم على الله، نسوا يوم الحساب يوم فصل الله بين الخلق.
وقال البعض: هنا مقدم ومؤخر، وتقدير الآية: (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا).
والمؤدى واحد أي: بما نسوا يوم الحساب يوم القيامة يوم العرض على الله؛ لنسيانهم الحق، والهداية والعدل، وترك أخذ الحقوق من أصحابها، وردع الظالمين والباغين.


الصفحة التالية
Icon