تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب)
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: ٣٤].
فقوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ [ص: ٣٤] أي: اختبرناه وابتليناه، ﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ [ص: ٣٤] أي: جعلنا على كرسيه شيطاناً يجلس عليه ويحكم منه.
(ثم أناب) أي: ثم تاب سليمان وعاد لربه ورجع، واستغفر ربه.
قالوا: بأن سليمان حارب ملكاً من ملوك جزائر البحار وأسر ابنته وأخذها جارية، وقالوا: إنها أبت أن تسلم، فصنعت لنفسها صنماً في بيت سليمان وأخذت تسجد له وتعبده.
وقال قوم: بل أسلمت -واسمها جرادة حسب زعمهم-، ولكن سليمان شغل بها زمناً وهو يراها حزينة ويريد منها أن تسر وتفرح، فتقول له: ذكرى أبي في نفسي تمنعني السرور والراحة، فأمر لي شياطين يصورون لي صورة أبي كما أعرفها ففعلوا، فألبست تلك الصورة الأردية والألبسة التي كانت تراها عليه، ومع الأيام أخذت تسجد له وتعبده، والمعنى واحد.
وفي يوم من الأيام جاء أحد الجن من المؤمنين -وزعموا أن اسمه صخر- فقال: يا سليمان! إني أرى في دارك أن الأوثان تعبد من دون الله، قال: أيكون ذلك؟ قال: سل فستجد هذا صحيحاً.
وقالوا: وكان لسليمان خاتم وبهذا الخاتم يأمر وينهى ويتصرف في الجن والإنس، وكان إذا دخل الخلاء أو مس نساءه ينزعه ويعطيه إحدى جواريه، فجاء صخر هذا وقد نزع خاتم سليمان وجاءها متلبساً بصورة سليمان، فقال: هاتي الخاتم فأعطته إياه وهي تعتقد أنه سليمان، فلبسه، وخرج سليمان، وجاء إلى الجارية فقال لها: أين الخاتم؟ قالت: أعطيته لسليمان، قال: أنا سليمان، قالت: أتكذب؟ وإذا بسليمان يهيم على وجهه، وأخذ يقول: أنا سليمان، وكل من قال له: أنا سليمان كان يضربه ويؤذيه ويقول له: أتكذب على نبي الله، وبقي على هذا أربعين يوماً، وإذا بهذا الشيطان الذي أخذ الخاتم جلس على كرسيه وأخذ يحكم ويأمر وينهى على أنه سليمان.
قالوا: هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ [ص: ٣٤] أي: ذاتاً، وكان هذا الجسد هو هذا الشيطان، وإذا بهذا الشيطان يأمر وينهى بما لا يتفق مع التوحيد والإيمان، فأخذ بعض أتباعه من بني إسرائيل من تحت الكرسي كتابات تدل على سحر وكفر، فأخذوا يقولون: كفر سليمان، وكذبهم الله وقال: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: ١٠٢] إلى أن قال: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠٢]، وتلك إشارة لهذا المعنى في هذه الآية.
وقالوا: ودعا يوماً ولم يجد طعاماً، وهو في هذه الحالة جاء فقراء المؤمنين من بني إسرائيل وفقراء المؤمنين من الجن، فقالوا: لقد أنكرنا على سليمان أشياء ما كان يفعلها قبل، فدخلوا على نسائه وسألوهن: أأنكرتن شيئاً من سليمان، والقصة من الكذب والافتراء، فقلن: نعم، أصبح لا يغتسل من جنابة ويأتينا ونحن حيض، ومعاذ الله وحاشا الله أن يكون هذا من نساء نبي صادق مصدق، ولكنها أكاذيب اليهود، ولولا أن هذا ذكر في كتب المسلمين نقلاً عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وأمثالهما، وعمن يروي عنهما من التابعين المسلمين، بل ومن بعض الصحابة كما صح أن يذكر هذا بما فيه من الطعن والتجريح لمقام النبوة والرسالة المعصومة التي لا يغفل عنها مثل هذا، ولا تهان عند الله بأن تمس نساء النبوة بمثل هذا قط.
وقالوا بعد ذلك: عندما جاع سليمان عرض نفسه على صياد قد اصطاد حوتاً، فأعطاه سمكة منتنة، فأخذها سليمان وذهب يغسلها في الماء وشق بطنها وإذا به يجد الخاتم في بطن السمكة؛ لأن صخراً كان قد قذفه في البحر، فلما وجده سليمان لبسه، وبمجرد أن لبسه إذا بالطير تقف وتسجد له، وإذا القوم يقفون عند رأسه جناً وإنساً ويقولون له: يا نبي الله! يا رسول الله! فعاد لكرسيه، وعاد لملكه وعاد لنبوته، واستغفر الله وأناب ورجع إليه تائباً مما صدر عنه.
وذاك معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: ٣٤] أي: ثم عاد إلى الله تائباً منيباً إليه.
وفي وصف هذا الكرسي غرائب وعجائب فقد وصفه كعب الأحبار لـ معاوية وقال: هو كرسي من ذهب قوائمه من زمرد على غلال من أنواع الحرير، ومن أنواع اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، ويكون تارة على شكل الطواويس وتارة على شكل النسور وتارة على شكل الأسود.
وحكوا من الغرائب أن الطيور والحيوانات كان إذا جاء سليمان وصعد على الكرسي أنابت ثم حركت أجوافها وقذفت من العنبر ومن أنواع الطيب ما تنشره على سليمان وكرسيه والحاضرين.
وكل ذلك من مختلقات اليهود وأكاذيبهم، فاغتر بهم من حاول أن يفسر بعض الآي وخاصة قصص أنبيائهم، وسليمان وداود من أنبيائهم.
ولذلك محققو المفسرين عندما أتوا إلى هذه الإسرائيليات طرحوها ولم يلتفتوا إليها ألبتة، ولم يكذبوها ولم يصدقوها، ولكن البعض كان يذكرها ثم يعود فيطعن فيها، ولكنه ينقل بعضها عن الصحابة من مثل عبد الله بن عباس وهو ممن كان يجتمع بـ كعب ويروي عنه، وعن مثل أبي هريرة فقد كان يجتمع بـ كعب، وكعب هذا كان بلاء للمؤمنين، ابتلوا به أيام عمر رضي الله عنه، وقد حسم الرأي فيه بأن الصحابة شككوا في صدق إيمانه وهو من أصل يهودي، عايش رسول الله وهو رجل كبير، وما جاء إلا بعد أن ولي عمر الخلافة فسأله مرة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا كعب في مثل علمك وعقلك ودينك لم لم تأت رسول الله ﷺ حال حياته، فقال كلاماً غير مقبول).
وقال عنه معاوية: (وإني لأبلو عنه الكذب) وكذبته عائشة.
وقال عنه عمر في قصة: لقد ضاهيت اليهودية يا كعب.
وقال عنه ابن مسعود: لقد أشبهت اليهود يا كعب.
إذاً: الذي نعتقده ونوقنه أن سليمان لم يصدر عنه شيء، وحتى قصة الخاتم التي أصبح الناس يقولون: خاتم سليمان، وهذا الخاتم لا يوجد له ذكر في صحيح الحديث وفي القرآن من باب أولى وأحرى.
ولكن الذي في الآية أن الله ابتلى سليمان واختبره فألقى على كرسيه شيطاناً، فأخذ هذا الشيطان يحكم بحكمه ويأمر بأمره، وفي هذه الحالة كان سليمان قد زالت هيبته وزال ما كان عليه من مظاهر النبوة والرسالة والملك، اختبر بذلك زمناً وصبر واعترف بذنبه وتاب إلى الله ودعاه واستجاب الله له، فقال الله عنه: (ثم أناب) أي: تاب وأناب وعاد إلى الله جل جلاله، بما فيه من طاعة ودين وتقوى.


الصفحة التالية
Icon