تفسير قوله تعالى: (فسخرنا له الريح تجري بأمره)
قال الله تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: ٣٦].
في الحديث النبوي: (أن بدوياً جاء إلى مكة فسمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) فسليمان جاء إلى هذه الخيل الصافنات فذبحها وعاقبها بأن قدم خير الدنيا على الصلاة في وقتها، فعندما فعل ذلك لله عوضه الله بما هو خير من الخيل، عوضه بالريح تجري بأمره رخاء لينة بغير واسطة، (حيث أصاب) أي: حيث أراد.
كان يضع البساط ويحمل على هذا البساط جنداً وبشراً وخلقاً فتذهب به الريح مسافة سنة، وشهر، وهذه الريح في الصباح والمساء كالطيران اليوم.
فقوله: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ﴾ [ص: ٣٦] أي: أصبحت الريح هي مركبه وجواده وعليها يتنقل ويرحل.
﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً﴾ [ص: ٣٦] أي: بغير عواصف، وإلا لو كانت عاصفة لقلبته وقلبت جنده، وإنما كانت رخاء لينة بغير عواصف، فتذهب به حيث أراد وقصد من أرض الله.
يقول أحد كبار العارفين من أئمة المسلمين: لن تقوم الساعة حتى يصبح جميع ما ذكر في القرآن معجزة، يصبح شيئاً عادياً؛ لأنه لا حاجة للمعجزات بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، وتبقى الكرامات، وهي لا يتحدى بها، كما يتحدى بالمعجزات.
وكان من صدق ما قال هذا العارف بالله لم يكن في عصره؛ لأنه كان في القرن السادس، ونحن الآن في أواخر القرن الرابع عشر، أي: منذ ثمانمائة عام، ولم يكن للطيران ذكر، فها نحن الآن نرى أن الريح الرخاء التي سخرت لسليمان أصبح يستعملها جميع خلق الله في الأرض، سخرت لهم الريح فحملوا عليها الطائرات بأنواعها وأشكالها، وهؤلاء الذين صنعوا ذلك ليسوا بمؤمنين ولا بموحدين، فلم يكن ذلك معجزة ولا كرامة، ولكنه سر من أسرار الطبيعة التي خلقها الله، اكتشفوها واطلعوا عليها، فسخروها لخدمة الإنسان، والمخترع الأول لذلك هو عربي أندلسي اسمه عباس بن فرناس، صنع لنفسه جناحين وطار بهما محلقاً زمناً، ولكنه نسي أن الطائر عند النزول يستعين بذيله، فلم يصنع لنفسه شيئاً يقوم مقام الذيل، فعندما أراد النزول عجز، فبقي يدور ويدور إلى أن كل ومل فسقط.
واليوم يبحثون ويسعون في أن يصنعوا الأجنحة للإنسان كما صنعوها للجماد، وليس نجاح ذلك ببعيد؛ فبساط سليمان الذي كان معجزة لسليمان الآن يصنعه الناس، ولو وقفت الريح سقطت الطائرة، فهي الريح قد سخرت لسليمان والآن حمل على الطائرات من الأثقال ما كان في عصر سليمان وزيادة، فنحن نرى اليوم وخاصة آخر طائرة صنعت حديثاً التي تسمى (الكونكورد) عبارة عن مدينة محلقة في الأجواء، فيها طبقات، وتحمل ما يزيد على ألف راكب، وتقطع ما بين المشرق والمغرب في أقل من ثلاث ساعات، والأمر لا يزال يزداد، كما قال ربنا جل جلاله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣].
تلك من معجزات كتاب الله، ومن أنباء وحي الله، ومما دل على صدق نبي الله وخاتم رسله سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله.
قال الله تعالى: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ [ص: ٣٧].
أي: سخر له الشياطين، والشيطان الجني الكافر، وقد يكون الشيطان مؤمناً، كما قد يكون الجني كافراً، وهم مردة الجن وأكثرها عتواً وأكثرها قوة، وأكثرها طغياناً، فسخرها الله لسليمان، فقوله: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ﴾ [ص: ٣٦] (والشياطين) عطفت على الريح، ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ﴾ [ص: ٣٧]، (بناء) صيغة مبالغة، فهم كانوا يبنون له من كل قصور وقدور راسيات ومن كل ما يريده سليمان من المعسكرات والمدن والقصور.
(وغواص) أي: كل شيطان شديد الغوص في البحر، فيأتيه من البحر بأنواع اللآلئ والزمرد وكنوز البحر، وفي البحر من الكنوز ما لا يكاد يخطر على بال إنسان.
والكثير من مواطن البحر من قعره لا يتم الوصول إليه إلا بعد مئات الكيلو مترات، والإنسان كلما غاص أكثر يحس بثقل الماء على ظهره وكأنه الحديد والفولاذ.
ولذلك الغواص الذي يغوص لالتقاط اللؤلؤ يكون دائماً عند مظهر الماء، لا يستطيع الغوص في أعماق البحار فيهلك.
قال تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ﴾ [ص: ٣٨] أي: آخرين غير بنائين وغير غواصين من المردة العصاة لسليمان.
(مقرنين) أي: مسلسلين بالسلاسل والأكبال نتيجة خلافهم وعصيانهم لأوامر سليمان.
﴿فِي الأَصْفَادِ﴾ [ص: ٣٨] جمع صفد، وهي السلاسل والأكبال والحديد، فيربطون بالأعناق والأيدي والأرجل.
إذاً: فربنا عندما طلب منه سليمان أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده استجاب له، فوهب له من الشياطين البنائين والغواصين والمردة، وسخر له الريح تجري به حيث يشاء.
وقال الله لعبده سليمان: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص: ٣٩] أي: هذا عطاء الله لسليمان أن يمنن ويتكرم وينعم على من يشاء من الخلق إنساً أو جناً، أو ليمسك، فله أن يعطي ما شاء لمن شاء، ويمنع من شاء مما شاء؛ لأن ذلك مما خصه الله به، وذاك مما استجاب لدعوته بأن يهبه ملكاً لا ينبغي ولا يليق لأحد من بعده.
قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: ٤٠] أي: مهما أعطاه الله في الدنيا من الملك والنبوة والسلطان، ومن التصرف في الخلق جناً وإنساً، فهو مع ذلك له عند الله يوم القيامة زلفى وقربى منه سبحانه، ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: ٤٠]، المآب الحسن: هو العودة الحسنة الطيبة لرحمة الله ودخول الجنان، وأنه سيعطيه في الجنة أكثر مما أعطاه في الدنيا.
﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا﴾ [ص: ٤٠] أي: في الآخرة، (لزلفى) أي: لقربى، ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: ٤٠] أي: عودة حسنة وطيبة.


الصفحة التالية
Icon