تفسير قوله تعالى: (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث)
قال الله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٤٤].
إن أيوب أقسم ليضربن زوجته مائة ضربة؛ لأنها قصت ضفائرها ولم تقصها إلا لأجله، ولكنه في حالة غضبه أقسم، فأراد الله جل جلاله أن يجمع بين عدم حنث عبده أيوب، وعدم الإضرار بزوجته، فقال: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ [ص: ٤٤] أي: حفنة من الحشيش أو الشمراخ من شماريخ النخيل فيه مائة عود، ﴿فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤] فأخذ بيده شمراخاً فيه مائة قضيب، فضربها به ضربة، وتلك العيدان رقيقة تشبه الغزل، فضربها مائة ضربة بضربة واحدة، وذلك مخرج من الله؛ لكي لا يحنث، والحنث عظيم في الأيمان بالله.
فقوله: (ولا تحنث) أي: بضربك هذا تكون غير حانث قد حققت يمينك.
قال علماؤنا: هل يكون في شريعتنا أو لا يكون؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة: يكون، وهو من باب التحايل الشرعي لتنفيذ حكم أو حد من حدود الله، وليس من التلاعب في دين الله، ولا في أرزاق عباد الله، فأباح ذلك أبو حنيفة والشافعي، ونهى عنه مالك وقال: هذا كان شرعاً لأيوب ولم يكن شرعاً لنا، وقد قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨].
نقول: مثل هذا وقع في شريعتنا، فقد جاء في الأحاديث: (أن رجلاً مقعداً في البيت، فزارته جارية، وإذا به يراودها فمكنته من نفسها، فحملت منه، فرفع شأنه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقصوا عليه قصته، وقالوا: يا رسول الله! هو جلد على عظم ليس فيه لحم، ولو حملناه لتفتت ولتقطعت أركانه، فأمر أن يضرب بشمراخ فيه مائة عود)، كما أرشد الله تعالى أيوب نبيه، فضرب هذا المقعد بالشمراخ ضربة واحدة.
ومن هنا كان قول أبي حنيفة والشافعي مبنياً على دليل نبوي، لا على مجرد تقليد فعل أيوب عليه السلام، وإلا فالأمر كما قال مالك: شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، ما لم يفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام أو يأمر به، فإن فعله صار شرعاً لنا؛ لأن النبي ﷺ فعله، فنحن لم نؤمر بأن نتبع شريعة أحد غير شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول الله هذا ويؤكده: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] والدين هو دين بجميع أحكامه حلالها وحرامها، فمن حاول أن يأتي بشرائع غير شرائع نبينا على أنه من فعل أولئك يكون قد أتى بما لم يوافق عليه ولا يقبل منه، فأما قوله تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] فنحن نهتدي بهدي الأنبياء في التوحيد والدعوة إلى الله، فكلهم جميعاً كانت دعوتهم واحدة، جاءوا إلى العباد وقالوا لهم: قولوا: لا إله إلا الله، فنحن نقتدي بهم؛ لأن رسالة الأنبياء في ذلك واحدة ولم تختلف، وإنما اختلفت الشرائع في الأحكام.
ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد، أبونا واحد وأمهاتنا شتى) (ديننا واحد) أي: جميعاً ندعو إلى لا إله إلا الله، وندعو للتوحيد، و (أمهاتنا شتى) أي: شرائعنا مختلفة.
وقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٤٤] أي: نعم الصابر في هذا الابتلاء، وفي هذا المرض، وفي هذه المحنة، يضرب به المثل في الصبر، منذ كان إلى عصرنا، فيقال: صبر صبرِ أيوب، وهيهات أن يصبر أحد صبر أيوب، نسأل الله السلامة والعافية.
فابتلاه الله فصبر، ثم جازاه حسب صبره، ولذلك من يصبر ويعتمد على الله يجعل له فرجاً ومخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن توكل على الله كفاه، ولذلك المؤمن مهما ابتلي ومهما عوقب فليعد إلى الله، وليطلب من الله المغفرة والرضا، وسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً كما جعله لأيوب.
وقوله: (نعم العبد) كلمة تقال في الثناء والإشادة بعبد الله.
فالله يشيد بعبده أيوب ويقول: (نعم العبد) أي: ما أنعم أعماله وما أكمل ديانته وما أصلح حاله، ثم أكد فقال: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ [ص: ٤٤] فهو نعم العبد لصبره ولتحمله ولثباته على ذكر الله بلسانه وقلبه، ولأنه ما غير ولا بدل طوال هذه السنين، طوال ثمانية عشر عام.
وقوله: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٤٤] أي: كثير الرجوع إلى الله خلال سنوات الابتلاء الثماني عشرة.