تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب)
قال تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾ [الصافات: ٦ - ٩].
نحن الآن في سورة الصافات، أي: سورة الملائكة.
يقول الله جل جلاله: (إنا زينا السماء الدنيا بزينةِ الكواكب)، وقرئ (بزينةٍ الكواكب) بالتنوين، والمعنى متقارب، فالله جل جلاله يذكر هؤلاء الكفرة الجاحدين ليعودوا للإيمان بالله، والإيمان برسل الله، وكتبه، ويلفت أنظارهم إلى هذا الكون وما فيه من نظام دقيق في السماوات والأرض، وخلْق الإنسان، وتسيير الشمس والقمر، وما مضى وما لا يزال يذكر بذلك.
ومن ذلك: أن الله جل جلاله زين السماء الدنيا وجملها، وأحسنها، والسماء الدنيا الأولى القريبة من الأرض التي نراها على شدة ارتفاعها وعلوها، زينها بالكواكب، فكانت زينتها ضياء الكواكب، فهذه الأنجم التي نراها والتي لا يحصي عددها إلا الله هي تزين السماء، كما قال في سورة الملك: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: ٥]، فهي جعلت لإضائتها ونورها كهذه المصابيح التي نراها في السقوف وفي أعالي الدور والبناء، فكانت هذه الكواكب -جمع كوكب- وهذه النجوم التي لا يحصي عددها إلا الله زينة للسماء، وكانت ضياءً لها في الليل البهيم.
من خلق ذلك؟ من زين ذلك؟ من رفعه؟ من أعلى سمك تلك السماء؟ ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾ [الصافات: ٦ - ٧] أي: وحفظ بها حفظاً.
فـ (حفظاً): مفعول مطلق، أي: حفظ السماء وحفظ الكواكب من كل شيطان مارد من نسل إبليس من الشياطين، والألف واللام للجنس، بل حفظ الله سماواته من أن تتصنت إليها الشياطين، فالمردة على الله، والكافرون بالله، والجاحدون له ولأنبيائه ورسله حفظت منهم.
قال تعالى: (وحفظاً من كل شيطان مارد) أي: من كل متمرد على الله، ومن كل من جاء يريد الإنصات إلى ما يقوله الملائكة، وما يتلقونه من وحي، وما يخرج به أمر الله من أمر أو نهي.
قال تعالى: ﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا﴾ [الصافات: ٨ - ٩].
(لا يسمعون) حذفت التاء تخفيفاً وأدغمت السين أي: لا يستمعون، وهذا للشيطان وجنسه؛ ولذلك عاد الضمير على الجماعة، (لا يسمعون) لا يتسمع هؤلاء الشياطين، وقرئ: (لا يستمعون) وقرئ: (لا يسمعون)، وهي كلها قراءات تبعية.
(لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) والملأ الأعلى: الجماعة العليا، وهم سكان السماوات من ملائكة الله وجنده الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وقد حفظ الله السماوات بهذه الشهب الثاقبة (وحفظاً من كل شيطان مارد * لا يسمعون) أي: كي لا يسمعوا.
(ويقذفون من كل جانب)، يقذفون من كل جهات السماوات ومن كل أقطارها ومن كل جوانبها، وهذا إذا حاولوا التصنت على الملائكة وما يقولون وما يوحى إليهم.
(ويقذفون) أي: يطردون ويقذفون من كل جانب (دحوراً) أي: ويدحرون دحوراً، أي: يطردون عن السماء، ويبعدون عن السمع وعن الإنصات.
قال: (دحوراً ولهم عذاب واصب)، يطردون من الإنصات طرداً ويبعدون إبعاداً كي لا يسمعون ما يقوله الملائكة، كي لا ينصتوا لما تتحدث به الملائكة، وما يوحى إليهم من علم الغيب، ومن أوامر الله ونواهيه جل وعلا.
(ولهم عذاب واصب) عذاب دائم، ويكون لهؤلاء الشياطين العذاب في الدنيا بهذا القذف، وعذاب الله يوم القيامة لكفرهم ولشركهم ولإنصاتهم على ما يحاولون.
﴿وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [الصافات: ٨ - ١٠].
هم يبعدون عند الإنصات، فإن تجرأ أحدهم ولربما يفعلون ذلك أحياناً يقذفون، وهذه الشهب التي نراها أحياناً يتطاير ضياؤها، وتتساقط بعض أجزائها تكون رجماً للشياطين في شهاب ثاقب يثقب الجني ويحرقه، ينفذ فيه من جانب إلى جانب ومع ذلك يحاولون أن يفعلوا، ويركب بعضهم بعضاً ليصل لذلك.
وهذا استثناء من قول الله تعالى (ويقذفون) لأن هذه النجوم وهذه الشهب حفظت بها السماء: (وحفظاً من كل شيطان مارد)، حفظ الله السماء وحفظ وحيه وحفظ الملائكة جنده ورسله إلى الناس في الأوامر والنواهي وتلقي الوحي في الخلق والأمر، حفظها من أن ينصت إليها هؤلاء الشياطين.