تفسير قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون)
يقول تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصافات: ١٢ - ١٥].
قوله: (بل عجبت ويسخرون) قرئ (عجبتَ) وقرئ (عجبتُ) بالضم.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: بل أنت قد عجبت من هؤلاء كيف أدخل عليهم الوحي، وأرسل إليهم نبياً من بينهم يعلمون أباه وأهله وعشيرته، ونشأ بينهم أربعين عاماً، ومن لم يدركه ومن لم يعاصره قرأ من سيرته العطرة وعلم من معجزاته الواضحات البينات، ثم بعد ذلك يكذبونك يا محمد؟! فكان يعجب النبي عليه الصلاة والسلام كيف لم يؤمنوا مع هذه الأدلة الباهرة والمعجزات الكاشفة؟! فقيل له: (بل عجبت ويسخرون) أي: فأنت تعجب وهم يسخرون من تعجبك؛ كيف تعجب من هذا وأنت تريدهم أن يتركوا آلهتهم إلى إلهك، وأن يتركوا دينهم إلى دينك؟! ومعنى كونها بالضم، (بل عجبتُ) أن الله جل جلاله يعجب، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ [الرعد: ٥] فالله تعالى تعجب من قولهم، ومعنى ذلك: أن عجب الله جل جلاله يكون مرة من خير ويكون مرة من شر، وعجبه: إنكاره، وعجبه: غضبه، فهو قد شارك النبي ﷺ كما يقول الإمام الجنيد إمام أهل الآداب والرقائق، يقول: إن الله لا يعجب من شيء، ولكنه جل جلاله تابع نبيه فعجب لعجبه، أي: أنكر ما أنكره النبي عليه الصلاة والسلام من هؤلاء المشركين ومن كفرهم.
ويكون العجب بمعنى: الرحمة والرضا، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عجب ربنا من شاب لا صبوة له)، فالعجب هنا من الله أي: الرضا عنه والرحمة له، وذلك لكونه مع شبيبته ومع قوته ومع قدرته على أنواع الفواحش والذنوب والمعاصي، ومع ذلك حفظ شبابه عن المعصية وعن السوء، ومن هنا كانت رتبة هذا مع السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، فكبت نفسه، وعظم عليه أن يعصي ربه خوفاً منه.
قوله: ﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ﴾ [الصافات: ١٣] فقد غطى على قلوبهم الران، وأشربت بالكفر والشرك فهم (إذا ذكروا لا يذكرون) وشأن المؤمن أن يتذكر إذا ذكر ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: ٥٥].
فإذا تلوت القرآن على المنافق الكافر الذي أبى إلا الجحود والعصيان، إذا أنت ذكرته بالله، تلوت عليه كلام الله، حدثته بكلام رسول الله، رققت قلبه بالآداب والرقائق وقصص الأولين، وأن من عصى كان له النار وأن من أطاع له الرحمة والرضا، فهو لا يذكر ولا يخشع ولا يقبل ولا يعظم ربه، لا يذكر سيئته فيتركها ويعود إلى ربه، فهؤلاء هم المصرون المعاندون.
قال: ﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ [الصافات: ١٣ - ١٤] إذا اطلعوا على آية من آياته، معجزة من معجزاته يسخرون، و (يستخسرون) أي: يطلبون من غيرهم السخرية معهم، كما يفعل الكافرون في كل وقت، هم الآن كذلك، وهم قبل كذلك، وسيبقون كذلك؛ لأن الران واللعنة قد غطت على قلوبهم، فلا يمكن أن يذكر الله ويعود إليه، قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨]، إذا رأوا آية عميت عنها بصائرهم قبل أن تعمى الأبصار، وإذا رأوا قدرة من قدرات الله، معجزةً من معجزات رسول الله، لا يستطيع مثلها أحد، إذا بهم (يستسخرون) يبدءون بالسخرية والهزء، بل يقولون: هذا سحر مبين.