تفسير قوله تعالى: (فإنما هي زجرة واحدة)
قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الصافات: ١٩].
الزجرة ليست إلا صيحة، وهي صيحة البعث، والزجرات ثلاث: زجرة للفزع، فينفخ إسرافيل في البوق فإذا بكل من على الأرض من حي يفزع ويقف ذاهلاً مبهوتاً، ويدرك أن هذا أوان الساعة، فتمضي أربعون سنة وهم في هذا الذهول.
ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية -وهي نفخة الصعق- فيصعقون ويموتون، فمنهم من يموت وهو يحلب، ومنهم من يموت وهو يحاول وضع اللقمة في فمه، ومنهم من يخرج الثوب ليبيع ويشتري فلا يفعل، فيصعقون على حالهم.
وبعد أربعين سنة ينفخ إسرافيل -وهو المكلف بالبوق- النفخة الثالثة وهي نفخة البعث، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨].
وقوله: (فإنما هي زجرة واحدة) أي: لا تحتاج إلى ثانية، ﴿فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ﴾ [الصافات: ١٩] أحياء ينظر بعضهم إلى بعض عراة حفاة غرلاً، بل إنهم يفنون في النفخة الثانية ويدفنون بلا قلنسوة وبلا حذاء، وعائشة لما سمعت النبي يقول هذا عليه الصلاة والسلام قالت: (أنقف عراةً يرى بعضنا بعضاً؟! فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: الأمر أكبر وأشد من ذلك) أي: لا يفكر أحد في أحد؛ إذ الناس في ذهول، ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢].
وقال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٧].
فلن يفكر أحد في أحد، وكل يقول: نفسي نفسي! حتى الأنبياء تتجمع عليهم الخلائق والأمم ليشفعوا فيهم، وإذا بهم يقولون: نفسي نفسي! ولكن محمداً ﷺ -وهو صاحب الشفاعة العظمى- عندما يأتونه جميعهم من أمة نوح إلى أمته يقول: أنا لها! أنا لها! ويقف ﷺ ويخر تحت العرش، ويسجد ما شاء الله أن يسجد، ويدعو الله بدعوات، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أعلمها الآن)، فيقول الله له جل جلاله: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، اللهم اجعلنا من أهل شفاعته ومن أهل كرمه.
قال: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ﴾ [الصافات: ١٩] عراة ينظرون بأبصارهم وقد عادت إليهم أجسامهم.
وإذا بهم يقولون في رعب آخر وفزع: ﴿وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الصافات: ٢٠] قاموا وشعروا بأنهم عادوا بعد أن ماتوا، وأخذوا يصيحون وينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، يقولون: يا ويلكم! يتداعون بالويل، وهو نهر من القيح والصديد في قعر جهنم: (هذا يوم الدين) أي: يوم القيامة، يوم الدين الحق الذي ليس فيه إلا دين واحد وهو الاعتراف بالله، والإيمان بالله، وبما قاله الله، ولكن الإيمان ممن مات على الكفر لن ينفعه، ولات ساعة مندم، ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: ١٥٨].
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الصافات: ٢٠] أي: هذا يوم القيامة، هذا يوم الفصل في الدين، فمن كان موحداً فيا سعادته! ومن كان كافراً فيا خسارته! ثم تقول لهم الملائكة: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [الصافات: ٢١] أي: هذا يوم القضاء بين الخلائق.


الصفحة التالية
Icon