تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بكأس من معين)
قال تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [الصافات: ٤٥ - ٤٦].
تقول العرب: كأس وإناء، ولا تقول: كأس إلا إذا كانت عامرة بشراب أي شراب كان ماءً أو خمراً، فإذا كانت فارغة فهي إناء لا كأس، كما يقال لمائدة الطعام إن كانت فارغة: الخوان، فإن كانت عامرة فهي: المائدة.
فيطوف غلمان كأنهم لؤلؤ مكنون من الخدم والحشم والحاشية التي تقف على خدمتهم وهؤلاء يخلقهم الله في الجنة كما يخلق حور العين، وللمؤمن في الجنة من زوجات الدنيا زوجتان، ومن الحور العين سبعون حورية.
قال: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ [الصافات: ٤٥]، معين: أي من الأنهار ذات الخمر الجارية جريان الماء المعين، من معين أي: ماء جار، أي: خمر جارية، وهو الحوض الذي بشر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: ١ - ٢]، فالله جل جلاله تفضل على نبيه وأعطاه الكوثر.
والكوثر: هو الحوض، وصفه نبي الله عليه الصلاة والسلام أنه فيه من الأكواب عدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، فالمؤمن يتناول من هذا الحوض خمراً كما وصفها الله في كتابه: ﴿بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٦ - ٤٧]، أي: ليس فيها ما يضر ويؤذي، وخمر الجنة أبيض من الحليب صفاءًَ، وألذ من العسل المصفى طعماً، ليس فيها غول، والغول: هو ما يغتال النفوس خفية، كما نقول: فلان قتل غيلة أي: قتل خفية، أي: غدراً، فالغيلة معناها في الأصل: الخفاء.
فقوله: ﴿لا فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧]، أي: ليس فيها من الأضرار الخفية المعروفة في الخمر، أنها تذهب بالعقول، أنها تصدع الرءوس وتوجعها، أنها توجع الأمعاء، أنها تكثر البول بشكل غير اعتيادي، وما حرمها الله تعالى إلا لما فيها من الأضرار.
﴿وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٧]، أي: لا يسكرون، لا تغلب عقولهم، يقال: فلان نزف فهو نزيف أي: سكر فهو غائب عن عقله، وهو ضائع عن الحس والشعور، وكلمة (غول) هنا! هي الكلمة التي انتقلت في اللغات الأجنبية في الأرض، يقولون عن شراب: فيه (كول)، أو ليس فيه (كول)، وعن بعض العطور كذلك، فـ (كول) هي كلمة (غول) حرفت، ولذلك لا اشتقاق لها، وهي من الكلمات العربية التي تسربت في لغاتهم وما أكثرها، ولـ عباس العقاد وهو من الأدباء الكبار كتاب عن الكلمات التي شاعت في جميع لغات الأرض وهي من العربية في أصالتها، وهي كثيرة جداً، وهذه منها.
﴿وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٧]، لا يصيبهم بها الصرع والإغماء وضياع العقل، بل هي شراب لذيذ للشارب، أبيض كبياض الحليب، لا غول فيها ولا أذى ولا مرض، يشربها سكان الجنة، أكرمنا الله بنعيمها، وجعلنا الله منهم.


الصفحة التالية
Icon